يؤدي “حزب الله” دوراً استثنائياً في سوريا. النظام السوري محاصر من كل الجهات ولم يعد الرئيس بشار الأسد مقبولاً، ليس من الولايات المتحدة الأميركية فحسب، التي تفرض عليه عقوبات بموجب قانون قيصر، بل أيضاً من الأوروبيين الذين شددوا معارضتهم على استمراره في الحكم وفرضوا عقوبات على أركانه، بغضّ النظر عن المفاوضات التي تديرها الأمم المتحدة. ينطلق دور الحزب من أنه يشكل الرئة اللبنانية للنظام، وليس من حلفاء في لبنان للنظام يستطيعون أن يتولوا نصرته كما فعل الحزب بقرار مرجعيته الإيرانية التي حشدت ميليشيات عراقية وأفغانية أيضاً للدفاع عنه أولاً، ولوضع موطئ قدم في سوريا، توازياً مع دعم النظام وقتال الأطراف الإسلامية كـ”النصرة” سابقاً و”داعش” على الأرض السورية.
التغلغل الإيراني في سوريا ومن ضمنه “حزب الله” له أكثر من وظيفة بالتأكيد. الأمر لا يتعلق بمنافسة إيرانية لروسيا دفاعاً عن النظام وبقاء بشار الأسد في السلطة. فاستمراره هو مصلحة إيرانية، كما هو ورقة روسية لتحسين الشروط وإحداث توازن معين مع الأميركيين الذين يديرون معركتهم في سوريا من بعيد ولديهم استهدافات عدة. الأهم بالنسبة إلى الأميركيين ليس مصلحة الكرد أو القوات التي دربوها في سوريا، بل مصالحهم هي أوسع من ذلك وترتبط بمشاريعهم في المنطقة ككل. ومن هذه النقطة تأتي إسرائيل كخط أحمر، وحمايتها مسؤولية أميركية بالدرجة الأولى.
تورّط “حزب الله” في الحرب السورية إلى جانب النظام منذ عام 2012، وهو انخرط فيها غير آبه بالانقسام اللبناني الذي رفض قسم كبير من اللبنانيين هذا التورط، ليس لأنه دفاع عن النظام فحسب، بل لأنه يقاتل قسماً كبيراً من الشعب السوري، كما يجر لبنان الى الغرق في الوحول السورية، وإن كان الحزب قد أعلن أن تدخله هو لمحاربة “داعش” ومنع تمدده إلى لبنان. اليوم تختلف الصورة بعد انكسار تنظيم الدولة الإسلامية واستعادة النظام لكل المناطق باستثناء إدلب وبعض مناطق دير الزور، إلى شريط على حدود تركيا، فإذا بالنظام الذي استعاد السيطرة يتعرض للخنق والحصار، في ظل وجود قوات من دول وميليشيات مختلفة لها مشاريعها الخاصة، وفي مقدمها الحزب. وقد جاءت الغارات الإسرائيلية الأخيرة على البوكمال ودير الزور على الحدود العراقية السورية لتزيد الضغوط على الإيرانيين و”حزب الله” ولمحاولة منعهما من تثبيت القواعد والسلاح والتوسع في المرحلة المقبلة.
بات واضحاً أن سوريا تحوّلت ساحة تُستخدم لتحسين الشروط في المواجهة الإيرانية الأميركية، حيث يتولى الحزب دور تأمين التواصل بين بيروت ودمشق، وهو الذي باتت له قواعد ثابتة في المناطق السورية القريبة من الحدود، من القصير إلى الزبداني، يعتبرها مناطق خلفية في أي مواجهة. وحتى الآن استهدفت إسرائيل بغطاء أميركي مواقع عدة من دون أن تلقى رداً على رغم التهديدات التي أطلقها السيد حسن نصر الله في غير مناسبة، ويبدو أن هذه القوى تحاول تمرير الفترة الفاصلة عن خروج الرئيس الأميركي دونالد ترامب من البيت الأبيض، مراهنة على تغيّر النظرة الأميركية مع جو بايدن للعلاقة مع إيران.
لم يعد من متنفس للنظام السوري سوى لبنان. العقوبات التي فرضت عليه بموجب قانون قيصر وغيره، والتلويح أيضاً بعقوبات لأي كيان أو مؤسسة تمدّه بالأوكسيجين. وبعدما اشتد الحصار من الجهة العراقية، لم يعد من منافذ سهلة للتهريب على الحدود العراقية السورية، أو مد النظام بمستلزماته، لذا باتت الحدود اللبنانية المنفذ الوحيد ليتمكن النظام من الاستمرار عبر مده بكل ما يحتاجه، حتى بالمال. ويتولى “حزب الله” هذه المهمة التي يعتبرها استراتيجية لا بل مقدسة برعاية إيرانية، وهو ما يفتح على احتمالات عدة في المرحلة المقبلة، أبرزها انتقال المواجهة الإسرائيلية الإيرانية إلى لبنان، خصوصاً إذا قررت إسرائيل شن هجمات على مواقع لـ”الحزب” في الداخل اللبناني أو على الحدود. وحتى الآن لا تزال الأمور في دائرة الضغوط المالية والسياسية، حيث تُفرض عقوبات على الحزب وكيانات ومؤسسات له وشخصيات حليفة، مع التلويح بزيادتها، لكنها يمكن أن تتحوّل الى مواجهة عسكرية وساحة تصفية حسابات، بعدما كانت الضربات الإسرائيلية والغارات تقتصر على الأرض السورية.
يعتبر “حزب الله” أن معركته في سوريا لا تنفصل عن لبنان. يُمسك بساحة الجنوب اللبناني ويحتفظ بسلاحه وفائض قوته ويهيمن على الوضع اللبناني بتحالفه مع رئيس الجمهورية ميشال عون. وفي المقابل عمل على تأسيس مقاومة مسلحة في منطقة الجولان السوري المحتل في مواجهة إسرائيل. لذا أي معركة قد تنشب مع إسرائيل في الجولان لن يكون لبنان بمنأى عنها. المواجهات قد تأخذ أبعاداً ميدانية في المرحلة المقبلة، إذ إن الطلعات الإسرائيلية اليومية في السماء اللبنانية تشير الى أن إسرائيل توسّع من تحركاتها وتحذّر الحزب من الإقدام على أي خطوة وأنها سترد على مجموعة أهداف تكرّس واقعاً جديداً قد يفتح على أخطار ومواجهات وربما حرب كبرى عند أي خطأ في الحسابات.
في المقابل، تبقى الحدود اللبنانية السورية مشرعة، وممسوكة من “حزب الله”، وهي متنفس أيضاً للنظام السوري، فإذا كان “حزب الله” والإيرانيون لم يردوا على القصف الإسرائيلي خوفاً من مواجهة كبرى، في انتظار رحيل ترامب، إلا أن التّطورات في الميدان لا تشير الى أن الأمور ذاهبة الى تسوية أو على الأقل تهدئة تفتح الطريق لحوار في كل الملفات. لذا يبقى لبنان رهينة لمشاريع خارجية، لا يمكن تبرئة أحد منها بين أطراف الطبقة السياسية الحاكمة، وفي مقدمها الحزب الذي يأخذ البلد الى معارك إقليمية لا قدرة له على تحملها في ظل الانهيار، ويستميت بالدفاع عن النظام السوري، حتى لو كان ذلك على حساب لبنان.
المصدر: النهار العربي