حينما توفي وليد المعلم، وزير خارجية نظام الأسد، قبل أسابيع، لفتني تعليق لأحد الأصدقاء الصحافيين، بأن الرجل قد يكون أول مسؤول في تاريخ نظام الأسد، يُتوفى بشكل طبيعي، وهو على رأس عمله، باستثناء حافظ الأسد.
دفعتني تلك الملاحظة إلى البحث في مصير شخصيات بارزة، شاركت في تأسيس وتثبيت أركان نظام الأسد، في عهد الأب، وكانت حتى نهاية التسعينات، أسماء مُرعبة، يعتقد السوريون حينها، أنه لا يمكن المسّ بها، حالها حال رأس النظام، في ذلك التاريخ. أبرز تلك الأسماء، علي دوبا، وعلي حيدر، وعلي أصلان، وآخرون لعبوا دوراً بارزاً في حسم الصراع بين الأسد الأب وشقيقه (رفعت)، في الثمانينات. لكنهم جميعاً، أو من بقي منهم على قيد الحياة على الأقل، يقضون اليوم، خريف العمر، في حالة تهميش وتعتيم إعلامي. منهم علي دوبا، صاحب السطوة التاريخية في جهاز المخابرات العسكرية في عهد الأسد الأب، الذي تقول مصادر إعلامية متقاطعة، إنه عجز عن إطلاق سراح ابنه الأكبر، محمد، الذي أُخفي قسرياً منذ العام 2012، جراء شكوك من جانب مسؤولي النظام، بأن دوبا الأب، ربما يستغل ظروف الثورة للانتقام من تهميشه في نهاية التسعينات، على يدّ الأسد الابن. ولا يختلف المشهد كثيراً مع علي حيدر، قائد القوات الخاصة التاريخي، الذي سُجن لفترة قبل أن يُحال للتقاعد والتهميش، في العام 1994، بعد أن اعترض على خطة الأسد الأب، لتوريث الحكم لابنه بشار، رغم دور حيدر الحاسم في دعم الأسد الأب في صراعه مع شقيقه رفعت، في الثمانينات. أما علي أصلان، رئيس الأركان الأسبق، الذي كان أحد أبرز الشخصيات التي أشرفت على عملية انتقال السلطة لصالح بشار الأسد، فقد همّشه الأخير أيضاً، واختفت أية أخبار عنه حتى اليوم.
وقد يكون الثلاثة سابقي الذكر أفضل حظاً من نظراء لهم، بعضهم نُفي خارج البلاد، وبعضهم تمت تصفيته في عهد الأسد الابن، بطرق غامضة. لكن يبقى للأسماء الثلاثة تلك خصوصيتها، نظراً لما كانت تتمتع به من نفوذ هائل في عهد الأسد الأب.
قد تكون الإضاءة على مصائر الشخصيات البارزة في المستوى الأعلى من هرم نظام الأسد، مفيدة للبحث بموضوعية حول إجابة على سؤال عاد ليتردد مجدداً، في الآونة الأخيرة، بعد أن ظهرت للوجود صفحة “فيسبوكية”، أثارت بعض الجدل، حينما أخذت توجه سهام نقدٍ لاذعٍ لنظام الأسد، ولشخص بشار الأسد، شخصياً، رغم أنها، حسبما يُعتقد، مُدارة من نشطاء ينتمون للطائفة العلوية.
صفحة “البهلولية نيوز”، التي تحمل اسم بلدة علوية، بريف اللاذقية، خرقت واحداً من ثوابت الحياة السياسية في سوريا، حينما طالت بانتقاداتها رأس النظام شخصياً، بل ودعته للتنحي في منشور أثار الكثير من التفاعل، في مطلع العام الجاري. وكانت قبيل ذلك، قد دعت إلى تظاهرات في البلدة ذاتها، التي تحمل اسمها، عشية رأس السنة، لكن الدعوة لم تلق تفاعلاً على الأرض، رغم التفاعل الكبير، والإيجابي، الذي لقيته على وسائل التواصل الاجتماعي.
لا يمكن الجزم بأي تنبؤ، وفي حالة حراك العلويين المأمول، يبدو أن السمات التي تحملها العلاقة بين الطائفة العلوية، وبين نظام الأسد، جليّة للعيان. الأمر الذي يجعل الرهان على “ثورة” للعلويين على نظام الأسد، طرحاً لا يتمتع بالكثير من المعقولية. حتى لو أخذنا بعين الاعتبار التناقضات التي تتفاعل في أوساط العلويين، سواء على صعيد عشائري، بين كلازية وحيدرية، أو على صعيد عقائدي، بين المرشدية وبقية الطائفة، أو على صعيد طبقي، بين فقراء الطائفة، وأثريائها من الضباط وكبار المتنفذين في أوساطها.
أبرز سمات العلاقة تلك، هي أن أبناء الطائفة استفادوا من مزايا ما كان يمكن لهم نيلها، لولا نجاح إدارة حافظ الأسد في ترسيخ أركان حكمه. ورغم أن مقولة استغلال الأسد الأب للعلويين كأداة قسر، لتعزيز حكمه، هي دقيقة، لكنها في الوقت نفسه، تتجاهل الجانب الآخر المستفيد من المعادلة، وهي العلويون أنفسهم، الذين انتسب معظم أبنائهم لأجهزة الأمن والجيش، ومؤسسات الدولة الفاعلة، الأمر الذي أتاح للكثيرين منهم، بأن يتحولوا من حالات فقر مدقع إلى أثرياء، أو على الأقل إلى مستفيدين بشدة، من مواقعهم الجديدة.
ورغم أن عشرية الحرب الأخيرة لنظام الأسد على السوريين، استهلكت خيرة شباب الطائفة، إلا أن ذلك الواقع يحمل بعداً آخر، يضعف أي قدرة على تحويل الاستياء في أوساط بعض العلويين إلى حراكٍ فاعلٍ. ففقدان خيرة الشباب، مع تحول كثيرين من البقية إلى تجار خردة و”مسروقات تعفيش”، أو إلى ناشطين على خطوط التهريب، أو إلى مقاتلين داخل الفرق العسكرية المُعاد تدويرها، وأبرزها الفرقة الرابعة، كل ذلك، يجعل الرهان على حراك شامل لهذه الطائفة أمراً مستبعداً، بل ومفاجئاً لأي مراقب يتمتع بدرجة معقولة من الموضوعية.
أما ثالث تلك السمات في العلاقة بين العلويين ونظام الأسد، فهي أن خريطة المستفيدين بشدة، موزعة بإحكام، بصورة تجعل في كل قرية علوية تقريباً، ضابطاً أو تاجر حرب، مقرّباً من النظام، وله بطانته المستفيدة هي الأخرى منه، في القرية ذاتها.
وقد يكون الخلاف “الفيسبوكي” شديد اللهجة، بين رامي مخلوف، ونظام الأسد، مؤخراً، أفضل تجربة عملية، على مدى قدرة شخصية علوية، على استنهاض العلويين ضد النظام. فرغم ما لدى رامي من نفوذ، ومقدار التفاعل الذي حظي به، على صفحته “الفيسبوكية”، من فئات يتضح من تعليقاتها أنها تنتمي للطائفة، إلا أن مفاعيل كل ذلك، على صعيد الطائفة، بقي في العالم الافتراضي، كما بقيت التفاعلات الإيجابية مع صفحة “البهلولية نيوز”، في العالم الافتراضي كذلك، من دون أن تنتج أي حراك فاعل على الأرض. وحتى لو حصل حراك محدود، في بعض القرى أو البلدات التي يعتقد أهلها، أنهم لم يحظوا بنصيب عادل من مكاسب الطائفة جراء اصطفاف معظم أبنائها إلى جانب الأسد الابن، إلا أن ذلك، على الأرجح، سيكون تحركاً محدوداً، سيتم تطويقه سريعاً. خاصة مع ما نلحظه من عناية خاصة يوليها نظام الأسد، لأبناء الطائفة في جبال الساحل، الذين كان رئيس الوزراء السابق، عماد خميس، شبه مقيم لديهم، بغية حلحلة ما يستطيع من مشاكلهم الخدمية والمعيشية، رغم قدرات “دولة الأسد” المتداعية.
وقد تكون أبرز سمات العلاقة بين العلويين ونظام الأسد، هي أن الأخير نجح في إفقاد الطائفة لأية نخب أو قيادات مؤثرة، سواء دينية أو اجتماعية أو سياسية، إما عبر الاستمالة وإشراك تلك الشخصيات وعائلاتها في أرباح الفساد، أو عبر التصفية، إن اضطر الأمر، في بعض الحالات. وفي الحيثية الأخيرة نذكر جميعاً مصير “عبد العزيز الخيّر”، الذي أُخفي هو الآخر، في بدايات الثورة.
كل ما سبق، لا ينفي احتمال حصول مفاجآت. وبخلاف الكثير من القراءات، فإن أبرز تهديد يمكن أن يطال استقرار نظام الأسد، هو الخلاف داخل العائلة ذاتها. فذلك النوع من التهديدات، هو ما يُعرف في تاريخ الأنظمة “الملكية”، حيث أن معظمها ينهار إما جراء تدخل خارجي أقوى منها، أو جراء صراع بين أفراد العائلة. وهنا، يبدو أن الرهان على صراع بين ماهر الأسد، وبشار، حول من سيخلف الأخير، هو الرهان الأكثر موضوعية، في المستقبل المتوسط أو حتى البعيد. أما الرهان الآخر، الأضعف احتمالية، فهو حصول توافق إقليمي – دولي، يشمل إيران وروسيا، على إزاحة عائلة الأسد من رأس هرم النظام، واستبدالها ربما بشخصية، من داخل الطائفة، بصورة توافقية بين كبار ضباطها. وهو احتمال تحول دونه عقبات، أبرزها صعوبة تصور توافق بين الفرقاء الكبار في سوريا (روسيا – إيران – تركيا – أمريكا..)، وكذلك، صعوبة تصور النجاح في إزاحة عائلة الأسد، من دون تعريض النظام برمته لخطر الانهيار، وهو ما لا يريده أي طرف خارجي، بما في ذلك الغرب ذاته، ومعظم دول الخليج.
المصدر: المدن