مثلت المصالحة الخليجيّة في قمة العلا تطوراً استراتيجياً كبيراً وذا أبعاد مهمة في ما يتعلق بالصراع العربي – الإيراني المحتدم والمرشح للاحتدام أكثر في المرحلة المقبلة، لا سيما مع بدء ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن في العشرين من الشهر الحالي، تأسيساً على شعور إيراني بأن وصول بايدن الى البيت الأبيض، ومعه ثلة كبيرة من الحرس “الأوبامي” القديم في مراكز أساسية ومفصلية في الإدارة، سوف يمنح طهران مساحة لالتقاط الأنفاس بعد أربع سنوات عجاف مع إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب.
فالإيرانيون يشعرون بأنهم في طريقهم الى التخلص من مرحلة شديدة المصاعب، ومن زمن ضغوط قصوى سوف تتلاشى مع وصول بايدن ومعه أركان كانوا ينتمون الى إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وبعضهم يعمل منذ ما قبل تسلم السلطة على تنظيم عودة الولايات المتحدة الى الاتفاق النووي بصيغته الأولى، من دون ربط العودة ببقية الملفات الساخنة التي يفترض أن تفتح مع إيران، وفي المقدمة برنامج الصواريخ البالستية الدقيقة وما يسمى بالنفوذ الإيراني في الإقليم، بما يسببه من انعدام للاستقرار وتهديد لأمن الدول الحليفة. هذا هو رهان القيادة الإيرانية بجميع أجنحتها، وهي بالمناسبة تعمل في سبيل هدف واحد، أكان على مستوى الاستحواذ على القنبلة النووية، أم على مستوى بسط النفوذ الإيراني في المنطقة، ولو أتى ذلك عن طريق تدمير بلدان الجوار، واحتلال العواصم كما يتفاخر القادة الزمنيون والروحيون الإيرانيون.
إذاً، القمة الخليجية التي كرست المصالحة بين قطر والدول الخليجية، تمثل عودة الى الانتظام العام في المنطقة تحت عنوان وحدة الصف، لا سيما أن التحديات التي تواجهها المنطقة تصيب الجميع، ولعل التحدي الأول، هو التهديد الإيراني لجميع الكيانات العربية من دون استثناء، من الخليج الى المغرب العربي حيث حملات التشييع المخابراتية لا تتوقف في العديد من بلدان المغرب، في محاولة لاختراق مجتمعات تلك الدول.
حتى مصر لم تسلم من محاولات التشييع التي تديرها المخابرات الإيرانية في قلب مصر العروبة، بل إنها بعدما حوصرت، لا تزال تحصل في الخفاء وبأساليب ملتوية تهدد أمن المجتمع المصري بأسره. هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق المرتبطة بأمن دول الخليج، وأمن الهلال الخصيب من العراق الى سوريا ولبنان تمثل عنصراً مركزياً لصناعة موقف عربي جامع عبّرت عنه قمة العلا في المملكة العربية السعودية، إذ كانت للتهديد الإيراني للأمن القومي العربي مرتبة الصدارة، ما يوجب على الدول المشاركة والمتصالحة في ما بينها أن تتكاتف في سبيل درء أكبر خطر على المجتمعات والكيانات العربية في المرحلة الراهنة، لا سيما أن لا مؤشرات أو دلائل الى أن السياسة الإيرانية سوف تنحو في اتجاه العقلنة والانسحاب من المسرح العربي الذي استطاعت أن تدمّر أجزاء كبيرة منه. فالعراق وسوريا ولبنان أمثلة على التخريب الإيراني الممنهج، وعلى النفس الاحتلالي للسياسة الإيرانية القائمة على الهيمنة بواسطة تنظيمات طائفية فاشية مثل “حزب الله” في لبنان، وفصائل “الحشد الشعبي” في العراق.
كل هذا دفع المجتمعين في العلا، وقبل ذلك من خلال إطلاق مسار التطبيع، الى أخذ قرار كبير بالمواجهة والوقوف في وجه التهديد الآتي من الشرق والذي لا يمكن التعايش معه كما هو الآن، وقبل أن تتغير طبيعته. أكثر من ذلك، يفيد ما حصل في العلا، بأن الدول العربية المركزية أنجزت قطيعة مع نمط سياسي قديم كان يقضي بانتظار نتائج التغييرات في الإدارات الأميركية عند كل استحقاق انتخابي لكي يبني عليها سياسية انفعالية. أما الآن فالجديد أن العرب يقررون ما يناسبهم، فلا ينتظرون عودة أوباما الى البيت الأبيض لكي يبنوا عليها، بل يستبقونها بحراك استراتيجي كبير وغير مسبوق لملاقاة التحدي القادم من واشنطن، مع احتمال طغيان شبح باراك أوباما على السياسة الخارجية، من خلال “الأوباميين” الذين يتحضرون لتسلم المناصب الحساسة في الإدارة الجديدة.
قمة العلا وجّهت رسائل عدة في كل اتجاه، ولعل الرسالة الأكثر وضوحاً هي حصول تلاق في التعامل مع الجهة المهددة لأمن المنطقة العربية ككل، والاستعداد للمواجهة مع طهران، وأدواتها المنتشرة في المنطقة مثل “حزب الله” وغيره من التنظيمات الطائفية التي تعمل لمصلحة السياسة التوسعية الإيرانية.
المصدر: النهار العربي