تشهد العلاقات التركية الأميركية حالة غير مسبوقة من التردّي، وصلت إلى درجةٍ فرضت فيها الولايات المتحدة عقوباتٍ على مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية، على خلفية شراء تركيا منظومة الصواريخ الدفاعية إس 400 الروسية، على الرغم من أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن سلاح العقوبات لا يتماشى مع طبيعة العلاقات بين الدول الأعضاء في هذا الحلف.
وإن كانت العقوبات الأميركية على تركيا، بموجب قانون “مكافحة خصوم الولايات المتحدة عبر العقوبات” (كاتسا)، فردية وليست مشدّدة، إلا أن احتمال اتخاذ واشنطن خطواتٍ إضافية ضد تركيا ما يزال قائماً، خصوصاً مع تسلّم إدارة الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، مفاتيح صنع القرار في واشنطن التي عليها تقييم سياساتها العالمية، ومنها سبل تعاملها مع تركيا.
ويبدو أن الساسة الأتراك فضّلوا عدم التصعيد مع الولايات المتحدة حيال إعلانها فرض عقوباتٍ على بلادهم، إذ دعا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة وأوروبا خلال العام الجديد 2021، مؤكّداً أن “علاقات التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري متعدّد الجوانب التي تبنيها تركيا ليست بديلاً عن الروابط المتجذّرة مع الولايات المتحدة”، وأعرب عن اعتقاده بأن بايدن سيولي الأهمية المطلوبة للعلاقات التركية الأميركية، و”عدم وجود أي أحكام مسبقة وعداوة وخصومة لأحد لديهم”. غير أنه في السياسة الدولية الراهنة يصعب على أنقرة الموازنة في علاقاتها مع كل من واشنطن وموسكو، لأن علاقتها مع روسيا يختلط فيها التعاون مع المنافسة، وليست قابلة للتطبيق مع الولايات المتحدة. إضافة إلى تنافر استراتيجيات كل روسيا والولايات المتحدة ومصالحهما، وسعيهما إلى توسيع مناطق النفوذ والسيطرة العالمية، كما أن غاية ساسة موسكو، في علاقاتهم مع أنقرة، استمالتها نحوهم، وإبعادها عن المحور الأميركي، بينما ترى واشنطن أن اقتراب أنقرة من موسكو يعني دخولها في حلفٍ مناهض لها، لذلك ترى الأوساط السياسية التركية أن واشنطن تريد من أنقرة الابتعاد عن موسكو سبيلاً لتطبيع العلاقات معها.
وبالنظر إلى تنامي العلاقات التركية الروسية في السنوات القليلة الماضية، فإن أنقرة باتت غير مستعدّة للتضحية بعلاقات التعاون والشراكة التي بنتها مع موسكو في ملفات إقليمية عديدة، من أجل إرضاء واشنطن، خصوصاً أنّ كلّاً من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، يريد الحفاظ عليها، ويتطلّع إلى مزيد من التعاون والتنسيق المشترك.
وانعكس تنامي العلاقات التركية الروسية في انتقالها إلى مستوياتٍ جديدة، منذ طوت الدولتان أزمة إسقاط طائرة السوخوي الروسية في عام 2015، إذ توسّعت مجالات الشراكة والتعاون بينهما على المستوى الاقتصادي، وخصوصاً في مجال الطاقة. وعلى المستوى السياسي، توصّلت الدولتان إلى بناء تفاهمات واتفاقيات في ملفات إقليمية عديدة، بدءاً من سورية ومروراً في ليبيا ووصولاً إلى ناغورني كاراباخ. وفي المجال العسكري، تتوّجت في صفقة الصواريخ الدفاعية إس 400، غير أن المشكلة في العلاقات التركية الروسية اعتمادها على العلاقة الشخصية بين الرئيسين، أردوغان وبوتين، بالنظر إلى القواسم المشتركة بين شخصية كل منهما، وإلى ما يسميه بعضهم “الكيمياء السياسية” للزعيمين، إذ وصف الرئيس الروسي نظيره التركي بأنه “رجل يلتزم بكلمته ويفعل كل ما بيده من أجل بلاده”، وبدوره اعتبر أردوغان أنه “منذ أول لقاء معه، عرفته رجلاً ذا كلمة، يتمتع بأمانة كبيرة، ويحافظ على كل تعهداته”.
وإن كان المديح المتبادل بين بوتين وأردوغان يُراد منه توجيه رسائل إلى واشنطن وسواها، إلا أنه يجسّد أيضاً سعيهما نحو تطوير علاقات بلديهما، على الرغم من أن ذلك لا يخفي الخلاف والتنافس بينهما في ملفات عديدة، لكن علاقات الزعيمين حالت دون تطوّرها إلى مشكلات في المناطق التي تختلف فيه المصالح، وتمكّنا من إدارتها في كل من سورية وليبيا والقوقاز. والأمر نفسه تقريباً ينطبق على العلاقات التركية الأميركية في فترة الرئيس دونالد ترامب، من جهة اختزالها بالعلاقة الشخصية بين أردوغان وترامب، والإعجاب المتبادل بينهما، إذ أشاد ترامب بأردوغان في أكثر من مناسبة، فيما أثنى أردوغان على ترامب، واعتبر أن الإدارة الأميركية برئاسته أكثر ترحيباً بالأطروحات والحلول التركية لمشكلات المنطقة، لكن ذلك لم ينعكس إيجابياً على تحسن العلاقات بين الدولتين، بل اضطر ترامب إلى توقيع قانون العقوبات على تركيا تحت ضغط الكونغرس الأميركي، فضلاً عن أن علاقات البلدين دخلت في فتراتٍ من التوتر والتردّي على مختلف المستويات السياسية والعسكرية، وأفضت إلى بروز ردة فعل معادية للولايات المتحدة في الأوساط السياسية والاجتماعية التركية.
لا ينطبق الأمر نفسه على حال روسيا التي يحكمها رئيس واحد وحزبه، ولا توجد مؤسسات أو مجموعات ولوبيات ضاغطة على بوتين في صنعه القرار الروسي، كما هي الحال في الولايات المتحدة. وهذا لا يمنع بعض الأوساط الروسية من أن تتوجّس من السلوك التركي والمنافسة في بعض الملفات، مثل الموقف التركي الرافض ضم شبه جزيرة القرم وتوطد علاقة تركيا بأوكرانيا، وحديث أوساط روسية عن توجه تركيا نحو مشروع “طوران العظيم”، وأن تأثيرها ودورها بات يتجاوز الحدود التي رسمتها موسكو، وبما يشكل مشكلة للمصالح الروسية طويلة الأجل.
والواقع أن بوتين يدرك تماماً أن الغاية من فرض العقوبات الأميركية على تركيا تخليها عن صفقة الصواريخ الروسية، ووقف انتشار مبيعات الأسلحة الروسية في الأسواق العالمية. ولذلك يبذل ما في وسعه من أجل ألّا يتراجع الساسة الأتراك عنها. أما هؤلاء فيرون أنه في ظل رفض بيع الولايات المتحدة منظومة صواريخ باتريوت لبلادهم، فإنهم لن يتخلوا عن الصفقة الروسية، وفي الوقت نفسه، يحاولون التوصل إلى طريقةٍ لتحسين علاقات بلادهم مع الولايات المتحدة.
وتبدو أنقرة، وفق المعطيات السياسية الراهنة، غير مستعدّة للتضحية بعلاقتها مع موسكو بغية إرضاء واشنطن، لأن المعيار الرئيسي للساسة الأتراك بات مرهوناً بالمصالح الاستراتيجية لتركيا على المديين المتوسط والبعيد المدى. ولذلك يطالبون إدارة بايدن المقبلة بأن تقرّ بالحسابات الخاصة لتركيا، وتتفهّم دورها الجديد في ضوء مصالحها في المنطقة والعالم. ولكن من غير المرجح أن تغير الولايات المتحدة مواقفها حيال ملفات المنطقة، خصوصاً في سورية وليبيا والصراع في شرقي المتوسط، ولا يعني ذلك أن إدارة بايدن ستعامل تركيا وفق ما كانت عليه إبّان فترة ولاية باراك أوباما.
المصدر: العربي الجديد