رغم التطمينات التركية..مستقبل غامض ينتظر إدلب

يتواصل زخم التحركات الرسمية التركية، وتصريحات المسؤولين الأتراك، سياسيين وعسكريين على حد سواء، المتعلقة بتطورات الأوضاع في محافظة إدلب، بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في السادس من شهر آذار/مارس الجاري.

ولا يمر يوم دون الإعلان عن عقد اجتماع أو التخطيط للقاء سياسي أو عسكري رفيع المستوى، أو إلقاء خطاب، وفي أقل تقدير إصدار بيان صحفي. غير أن تقدير الموقف يبقى ملتبساً بالنسبة للمحللين السياسيين والعسكريين، فالصورة أبعد ما تكون عن الوضوح منذ الإعلان عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، حيث جاء الّنص مقتضباً وحمّال أوجه بسبب اقتصاره على عموميات، وزاد الطين بلّة الإشارات المتناقضة التي أدلها بها الرئيس أردوغان والرئيس بوتين في المؤتمر الصحفي المشترك لهما، الذي أعلنا فيه التوصل إلى وقف إطلاق نار في محافظة إدلب، كملحق لـ”اتفاق سوتشي” أيلول/سبتمبر 2018.

أنقرة لم توضح حتى الآن ظروف قبول الرئيس أردوغان بنص إعلان الهدنة خلال القمة التي جمعته مع الرئيس بوتين في موسكو في الخامس من آذار/ مارس الجاري. الكثير من المحللين اعتقدوا أن الملابسات ستُكشف بعد القمة خلال أيام معدودة، وبُني هذا الاعتقاد على تقدير مفاده أن المقصود من وقف إطلاق النار، بالصيغة التي خرج بها، نزع فتيل الأزمة وإعطاء مهلة زمنية للعسكريين والدبلوماسيين الأتراك والروس لمعالجة القضايا الخلافية العالقة، وهي أكثر بكثير من القضايا المتفق عليها بخصوص ما انتهى إليه الوضع الميداني، وكيفية معالجة نتائج وآثار الجولة الأخيرة من الحرب في محافظة إدلب، التي شاركت فيها القوات التركية بشكل مباشر إلى جانب الفصائل المسلحة للمعارضة.

قبل المضي في محاولة قراءة الحراك الرسمي التركي، وكيف تعكسه التصريحات الإعلامية التركية، أي تحليل موضوعي لابدَّ أن ينطلق من أنه لم يكن في وارد حسابات أنقرة أو موسكو الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة، بل وأكثر من ذلك حافظ الطرفان على مسافة فاصلة في الميدان السياسي للإبقاء على خطوط مفتوحة تضمن للجانبين صون المصالح الاستراتيجية المشتركة بينهما، والتي لا يمكن لأي منهما التضحية بها، مما فرض، ومازال وسيبقى يفرض، قيوداً على موسكو وأنقرة في إدارة الخلافات بينهما بشأن محافظة إدلب.

وزير الدفاع التركي خلوصي آكار أكد أن بلاده “أنجزت تفاهمات مهمة مع الوفد العسكري الروسي، بخصوص الأوضاع في محافظة إدلب”، لكن آكار لم يكشف عن ماهية أو طبيعة تلك التفاهمات، التي وصفها بـ”المهمة”.

وإذا ما ربطنا تصريح آكار مع تصريح آخر لوزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، فإن الهدف من المباحثات بين العسكريين الروس والأتراك أن يعمل الجانبان على “تحويل وقف إطلاق النار في إدلب إلى اتفاق دائم”. ومرَّة أخرى لا نجد إجابة على السؤال المركب والمتشعب الذي طرح نفسه منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار في إدلب: ما هي أسس الحفاظ على الاتفاق وتحويله إلى دائم؟ وماذا عن شرط انسحاب قوات النظام والمليشيات الإيرانية من المناطق التي سيطرت عليها في الجولة الأخيرة من الحرب؟ ومتى وكيف سيتم إعادة النازحين إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم في محافظة إدلب؟ وما مصير المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة لكنها باتت مفصولة عن المناطق الأخرى، خلف الطريق (M4) التي ستُسير عليه دوريات تركية- روسية مشتركة بدءاً من الخامس عشر من الشهر الجاري؟

لا يبدو أن أنقرة تملك إجابات ولا ضمانات، ولذلك حذِّر وزير الدفاع التركي، في التصريح المشار إليه، من أن بلاده “ستستأنف عملياتها العسكرية من حيث توقفت، في حال فشلت هدنة وقف إطلاق النار في إدلب”. وأشار إلى أن القوات التركية ستبقى في مواقعها، بما فيها نقاط المراقبة المحاصرة.

الطائرات الروسية وطائرات نظام الأسد خرقت الهدنة بغارات وحشية على بلدات وقرى جبل الزاوية، وشهدت المنطقة أيضاً اشتباكات دامية بين الفصائل العسكرية للمعارضة وميليشيات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية، إلا أن ذلك لم يمنع الرئيس التركي من اعتبار ذلك “خروقات بسيطة” على روسيا التدخل لوقفها. وبينما كانت تتناقل وكالات الأنباء هذه التصريحات المتفائلة للرئيس أردوغان، كان الجيش التركي يرسل تعزيزات عسكرية ضخمة إلى داخل الأراضي السورية.

تصريح آخر للرئيس أردوغان كان مثاراً للجدل، أدلى به يوم الثلاثاء الماضي 10 آذار/ مارس، كشف فيه أنه عرض على الرئيس الروسي بوتين “المشاركة في حقول نفط دير الزور بدل إدارة الإرهابيين لها”، وتوظيف تلك الأموال لإعادة بناء البنية التحتية وأضاف: “ومن خلال النفط المستخرج هناك، يمكننا مساعدة سوريا المدمرة في الوقوف على قدميها”، وأوضح أنه من الممكن تقديم اقتراح مماثل للرئيس الأميركي ترامب.

ليس هناك حاجة لمحلل مخضرم لاكتشاف أن هذا الاقتراح يقود إلى قيام شراكة، بشكل أو بآخر، بين تركيا ونظام بشار الأسد، وإذا لم يكن كذلك عندها يقع على عاتق الرئيس أردوغان أن يوضح بما لا لبس فيه ما قصد باقتراحه وأين ستنفق أموال النفط وعلى ماذا؟

ولا يصح عدم تسجيل تحفظ من حيث المبدأ على إعطاء أردوغان لنفسه الحق في طرح شراكة مع روسيا والولايات المتحدة لتقاسم النفط السوري، وإنفاقه ضمن خطط لن تكون بعيدة عن أجندات روسيا والولايات المتحدة، بالتعارض مع مصلحة الشعب السوري وطموحاته الوطنية.

على ضوء ما سبق، مازال مصير إدلب يلفه مستقبل مجهول، ففي السياسة لا يجوز الركون إلى النوايا الحسنة، بصرف النظر عن مصداقية أصحابها. وللأسف؛ إن سيولة التصريحات المبهمة تضفي على الموقف المزيد من الضبابية.

ولأجل خدمة ملف إدلب، والقضية السورية ككل، لا يجب تجاهل دور المعارضة السورية أو إغفاله، بل يجب إظهار دورها كشريك مقرِّر، ووضع ذلك في سياق المساعدة في توفير مقومات تمكينها من توحيد صفوفها، وحل تناقضاتها وإصلاح بنيتها الداخلية، بتخليصها من الشوائب التي علقت بها خلال السنوات التسع الماضية.

المصدر: بروكار برس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى