وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الثلاثاء الماضي قانوناً يمنح الرؤساء السابقين حصانة مدى الحياة بمجرد مغادرتهم منصبهم. وجاء القانون الجديد ضمن سلسلة قوانين أقرت في الأشهر الأخيرة، ظاهرها تنفيذ التعديلات الدستورية المنصوص عليها في الاستفتاء الشعبي الذي أجري منتصف العام الحالي، وباطنها إضفاء الطابع المطلق على السلطة الرئاسية وتعزيزها بلا حدود، مع إعطاء بوتين حرية مطلقة في تحديد مستقبله السياسي بخيارات مفتوحة. وتتراوح هذه الخيارات بين تسليم السلطة إلى أي خليفة يختاره في أي لحظة، أو الخروج من المشهد السياسي بعد انتخابات 2024، إلى متابعة الحكم حتى 2036 ضمن صيغتين؛ الأولى رئيساً للدولة، والثانية رئيساً لمجلس الدولة الذي أعيد تفعيله، وعقد أول اجتماع له بتركيبته الجديدة يوم الأربعاء الماضي. ويمنح القانون الجديد الرؤساء السابقين وعائلاتهم حصانة من الملاحقة القضائية على جرائم ارتكبوها. كما سيتم إعفاؤهم من الاستجواب من قبل الشرطة أو المحققين وكذلك من التفتيش أو الاعتقال.
وعملياً، تتطابق الحصانة للرؤساء السابقين مع الحصانة التي يتمتع بها الرئيس أثناء فترة حكمه. وعزا رئيس لجنة الدستور والتشريعات في مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي، أندريه كليباتش، في تصريحات له أخيراً، التعديلات في القانون السابق لحصانة الرئيس إلى أنه “من المهم تقديم ضمانات لحماية قادة الدولة السابقين من الملاحقة، وعدم اعتقالهم أو توقيفهم واستجوابهم والبحث عن أفعال ارتكبوها أثناء فترة الرئاسة”. وتطاول الحصانة أي مخالفات جنائية وإدارية يرتكبها الرئيس بعد تركه الحكم، كما يمنع تفتيشه جسدياً أو تفتيش مكان إقامته أو عمله ووسائل النقل والاتصالات الخاصة به وأمتعته.
وعلى عكس القوانين السابقة، يجعل القانون الجديد رفع الحصانة مَهمة شبه مستحيلة، وفق إجراءات معقدة تتطلب موافقة من مجلس الاتحاد (الشيوخ)، بعد اتهام واضح من مجلس الدوما للرئيس السابق “بالخيانة أو ارتكاب جريمة جسيمة أخرى”، تؤكده المحكمة العليا حول وجود علامات الجريمة في تصرفات الرئيس السابق، وتوافق عليه المحكمة الدستورية. ويجب أن يتقدم ثلث أعضاء مجلس الدوما بطلب رفع الحصانة، وبعدها تشكل لجنة للتحقيق في وجاهة أسباب طلب رفع الحصانة، ويشترط حصول الطلب على موافقة ثلثي الأعضاء، ولكن التصويت لا يتم إلا بعد سماح المحكمة العليا، في حال اقتنعت بوجود مؤشرات إلى جريمة في تصرفات الرئيس السابق.
وفي تبريره لتبني القانون الجديد، أشار رئيس لجنة بناء الدولة والقانون في مجلس الدوما، بافل كراشينينيكوف، في تصريحات صحافية أخيراً، إلى أنّ القانون “يهدف إلى الحفاظ على الاستقرار، حتى يطمئن الأشخاص الذين شغلوا المنصب الرئيسي في البلاد إلى أنهم لن يتعرضوا للملاحقة لأسباب سياسية، ولكن فقط في حالة ارتكاب جرائم خطرة”. وأشار في الوقت ذاته إلى أنّ “إجراء رفع الحصانة عن الرئيس السابق يصبح هو ذاته بالنسبة للرئيس الحالي”.
من جانبه، قال المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إنّ قانون الضمانات لرؤساء روسيا السابقين “مبرر بما فيه الكفاية، وهناك قوانين مماثلة في العديد من دول العالم”. ورداً على سؤال عن أسباب سنّ القانون، اعتبر بيسكوف في تصريحات صحافية قبل أيام، أنّ “التفسير الأكثر منطقية هو أن هناك حزمة كاملة من القوانين المرتبطة بتعديلات دستور روسيا، ومن بينها ضمانات الرؤساء السابقين… هذه ممارسة تحدث في العديد من دول العالم، وهي مبررة تماماً، أي أنها ليست استثناءً من وجهة نظر الممارسة الدولية”. ورداً على سؤال عما إذا كان مشروع القانون “استكمالاً وتحسيناً” للوضع (القانوني) الحالي للرؤساء السابقين، أجاب: “بالطبع”.
ومعلوم أنه لا توجد حصانة قضائية في الولايات المتحدة ومعظم البلدان الأوروبية بالنسبة للرؤساء السابقين. ولكن في رواندا، بشرق أفريقيا، فإنه لا يمكن تحميل الرئيس السابق المسؤولية عن الخيانة العظمى أو الانتهاك الجسيم والمتعمد للدستور إذا لم يتم توجيه أي تهم إليه خلال فترة حكمه. أمّا في إيطاليا، فيصبح الرئيس السابق سيناتوراً مدى الحياة؛ ولكن يمكن لمجلس الشيوخ رفع الحصانة عنه.
وعملياً، فإنّ القانون الجديد يطبق فقط على الرئيس السابق ديمتري مدفيديف الذي أثبت إخلاصه لصديقه بوتين، ووافق على الجلوس في كرسي الرئاسة لمدة أربع سنوات (2008-2012)، جهز أثناءها لعودة بوتين لفترتين رئاسيتين جديدتين كل منهما لمدة ست سنوات، بعدما اقترح زيادة فترة الحكم إلى ست سنوات. كما تحمّل أثناء توليه رئاسة الحكومة بعد ذلك مسؤولية قرارات صعبة أثارت غضب الروس مثل رفع سن التقاعد في 2018، كما شنت روسيا في عهد رئاسته عمليتها العسكرية ضد جورجيا في أغسطس/آب 2008. ومن الواضح أنّ بوتين أراد التأكيد لصديقه مدفيديف الذي يشغل منصباً شبه فخري استحدث خصيصاً له، وهو نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، أنّ مصيرهما مشترك، وأنه لن يتعرّض لأي محاسبة أثناء حكمه.
ومعلوم أنّ بوتين أصدر في 31 ديسمبر/كانون الأول 1999، أي يوم توليه حكم روسيا بالوكالة، مرسوماً بعدم محاكمة الرئيس بوريس يلتسين الذي تنازل وقتها عن الحكم لمصلحة بوتين الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء. وبعدها في 2001، عرض بوتين قانون ما يعرف بـ”حزمة الاتفاق بين يلتسين وخليفته”، وعارضه الشيوعيون الذين فشلوا في حجب الثقة عن يلتسين أثناء حكمه، ولكن القانون أُقرّ لاحقاً بعد تعديلات شددت على أن “ضمانات الحصانة تتعلق فقط بأنشطة الرئاسة”. وفي القانون الحالي، سيتحرر الرئيس السابق من أي مسؤولية كشخص عادي حتى بعد استقالته، ومنها جرائم القتل غير العمد على سبيل المثال.
وفي تصريحات لصحيفة “فيدومستي” أخيراً، أعرب النائب يوري سينيلشيكوف، عن قناعته بأنّ تبني القانون الجديد “جاء بسبب تنامي المشاعر الاحتجاجية في البلاد”، موضحاً أنه “بالنسبة للمستقبل، من الضروري منع إمكانية تقديم الرئيس السابق إلى العدالة”. وتساءل: “ماذا لو وصلت المعارضة إلى السلطة؟”، مضيفاً “بسبب هذا، تم تبني مثل هذه القوانين التي تجعل الرئيس السابق محمياً مثل الرئيس الحالي”.
وتُصعّب إعادة إحياء مجلس الدولة وعقد اجتماع لهذا لمجلس بتركيبته الجديدة الأربعاء الماضي، بعد إقراره من قبل الرئيس بمقتضى التعديلات الدستورية، معرفة نوايا بوتين المستقبلية، بعدما أصبح رئيساً للمجلس الذي يجمع ممثلين عن الحكومة والسلطات التشريعية والتنفيذية وحكام المقاطعات وزعماء الكتل البرلمانية وممثلي الفعاليات الاقتصادية المهمة في البلاد. ويمكن أن يتطور عمل المجلس وفق سيناريوهات عدة تعتمد جميعها على مخططات سيد الكرملين المستقبلية. فدور مجلس الدولة قد يقتصر على كونه هيئة استشارية فقط، ومنتدى جديداً للحوار لإثبات وحدة النخبة الحاكمة، خصوصاً أنّ الآراء المطروحة لا يمكن أن تخرج عن إطار الدفاع عن سياسات الدولة نظراً لطبيعة الأعضاء، وقد يتحول إلى مركز لقيادة الدولة وتحديد مسار السياسات العامة. ومن الاحتمالات الممكنة أيضاً أن يصبح المجلس مكاناً فخرياً يحوّل إليه كبار المسؤولين الحكوميين والوزراء في حال قرر بوتين عزلهم واستبدالهم بشخصيات أخرى، وحينها فإنّ المجلس يكون هيكلاً جديداً لتناوب الأفراد، يشعر فيه المسؤولون السابقون أنهم يؤدون بعض الوظائف المهمة، إن لم يكن في جوهرها، فعلى الأقل من ناحية المنصب أو التسمية. ومن اللافت أنّ الاجتماع الأول لمجلس الدولة، الأربعاء الماضي، تمخّض فقط عن اقتراح لإعطاء المقاطعات الحرية في منح الروس يوم عطلة إضافي في 31 ديسمبر (عشية رأس السنة الجديدة، والذي يعتبر يوم عمل في جميع أنحاء روسيا)، وهو موضوع لم يبت به منذ سنوات طويلة.
وأصدر بوتين بداية الأسبوع الماضي قانوناً يمنح الرؤساء السابقين عضوية مدى الحياة في مجلس الشيوخ الروسي. ويمكن لأي رئيس سابق للبلاد الحصول على عضوية في مجلس الشيوخ منذ لحظة تقدمه بطلب إلى المجلس في أي وقت يشاء. وكان يمكن إدراج القوانين الجديدة في إطار سعي بوتين للحصول على حصانة أبدية، تمهد لخروجه من السلطة، خصوصاً بعد تقارير غربية أشارت بداية الشهر الحالي إلى إصابة بوتين بمرض “باركنسون”، نفاها الكرملين. لكن احتمالاً جديداً يزيد من صعوبة التنبؤ بنوايا ضابط الاستخبارات السابق مع طرح أعضاء حزب “روسيا الموحدة” الموالين له، مشروع قانون في الدوما يمنحه الحق في الترشح للرئاسة في عام 2024 تماشياً مع التعديلات الدستورية الأخيرة التي “صفّرت” عداد الرئاسة، وتمت الموافقة عليه بالقراءة الأولى قبل يومين. وكان بوتين ردّ في مؤتمره الصحافي السنوي يوم 17 من الشهر الحالي، حول نيته الترشح للانتخابات المقبلة بإجابة باتت معروفة، وهي أنه لم يفكر بالأمر بعد. واستمر المؤتمر نحو أربع ساعات ونصف الساعة تلاه حديث طويل لمدة تجاوزت أربعين دقيقة بين بوتين وبعض الصحافيين عن قرب، في رسالة يبدو أنها موجهة لنفي وجود أي أمراض أو مظاهر تعب لدى الرئيس، على الرغم من برنامجه المكثف. وفي آخر اجتماع حكومي، امتدح بوتين عمل الوزارات في مواجهة تبعات جائحة كورونا الصحية والاقتصادية، متراجعاً عن انتقادات حادة سبقتها بأسبوع واحد فقط.
واستطاع بوتين عبر الهيئات التشريعية “المطواعة” تمرير قوانين تحدّ من قدرة المعارضة على التأثير على المواطنين في الانتخابات التشريعية في العام المقبل، لكن الأوضاع تنذر بأنّ النخب الحاكمة لن تحافظ على وحدتها في ظل أزمة عميقة مع الغرب، وعجز عن تنفيذ المشروعات القومية الاقتصادية، والخلافات بين النخب الليبرالية والقومية واليسارية الممثلة في الحكم على أساليب الإدارة، ومخططات المستقبل، ما يجعل بوتين في موقف صعب. فإعلان نيته الخروج في 2024 يفتح باب المنافسة بين الخلفاء المتوقعين، وتسمية خليفة له منذ الآن، يفتح الباب على انشقاقات في النخب، يمكن أن تؤدي إلى صعود المعارضة في الانتخابات المقبلة، وربما إبطال جميع القرارات السابقة. وفي حين تتراجع الآمال بإقدام بوتين على إصلاحات هيكلية في الاقتصاد والقضاء ومؤسسات الحكم، فإنّ عدم تنفيذ الإصلاحات قد يفاقم الأوضاع في روسيا ويأتي على معظم إنجازاته في سنواته العشرين الماضية. وفي المؤتمر الصحافي الأخير، وبعد تباهيه بعرض قوة روسيا العسكرية وصواريخها “التي لا تقهر”، دعا الرئيس الروسي “الرفاق في الغرب” إلى “العيش بصداقة”، ولكن يبدو أنّ رغبة بوتين في العيش بهدوء واستقرار في داخل روسيا صعبة لأنها تحتاج إلى وصفات مغايرة لصناعة الصواريخ والأسلحة الفتاكة، والعودة إلى المواقع التي تخلى عنها الاتحاد السوفييتي سابقاً، وتحتاج أساساً إلى منع تكلس السلطة والدخول في مرحلة الركود، كما كان الوضع في زمن الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف.
المصدر: العربي الجديد