ثارت، خلال الأيام الماضية، ثائرة سوريين كثيرين بشأن استخدام المبعوث الأممي، غير بيدرسون، تعبير العدالة التصالحية، في إحاطته التي قدّمها إلى مجلس الأمن عن أعمال الجولة الرابعة للجنة الدستورية السورية. وباعتبار أنّ المصطلحين، العدالة الانتقالية والعدالة التصالحية، جديدان نوعاً ما على أسماع سوريين كثيرين، من غير المتخصّصين في هذا المجال من فروع القانون أو العمل الحقوقي، تبين هذه المقالة مدلولاتهما بالمقارنة مع مصطلح العدالة الجنائية، وبأكبر قدر ممكن من التبسيط.
يُعرّف نظام العدالة الجنائية بأنّه “أداة اجتماعيّة لتطبيق معايير السلوك الضرورية لضمان حرية وسلامة الأفراد وحفظ النظام العام في المجتمع”. وبشكل عام، تهدف العدالة الجنائية إلى تحقيق هدفين رئيسين، تحقيق المصلحة الخاصة للأفراد بضمان حرياتهم وحقوقهم، وتحقيق المصلحة العامة للمجتمع بضمان الأمن والاستقرار، من خلال تطبيق قواعد عامّة ضمن بيئة طبيعية من استقرار المجتمع، بحضور الدولة وأجهزتها الحيادية تجاه الأفراد والجماعات.
من هنا يكون مفهوم العدالة الجنائية مرتبطاً بشكل تقليدي في حالة الاستقرار من جهة، وفي حالة حياد أجهزة الدولة من جهة ثانية، وفي حال ضيق نطاق الجرائم وانحصارها بالأطر الاعتيادية. وهذا يفترض أن تتوفر بيئة آمنة لقيام العدالة الجنائية التقليدية، أي الانطلاق من مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يمكن اختصاره تجاوزاً بعبارة “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني”، والاتكاء على استقلال المؤسسة القضائية وحيادها، بما يوفر حماية حقوق الإنسان الأساسية، خصوصا التقاضي على درجات، والاستناد إلى مبدأ البراءة المفترض بالمتهم وضمان حقوقه بالدفاع المقدّس، وإنفاذ الأحكام جبراً بقوّة القانون وأجهزة الدولة، ومبادئ تقليدية أخرى.
أمّا العدالة الانتقالية، فهي إجراءات استثنائية تختلف من بلد إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ويتم اعتمادها بناءً على مشاوراتٍ جماعية واسعة الطيف، لمعالجة آثار نزاعٍ مجتمعي غير اعتيادي، فالدول الخارجة من عهود الاستبداد، والمجتمعات الباحثة عن الاستقرار بعد الثورات أو الحروب الأهلية، لا تجد أمامها من سُبلٍ لمعالجة آثار تلك الحقبة من حياتها، إلّا بوسائل استثنائية تتناسب وطبيعة الانتهاكات والخروقات لقواعد العقد الاجتماعي الناظم لحياتها، ولحقوق البشر المؤلّف منهم هذا المجتمع أو المنتمين لتلك الدولة.
من هنا، تختلف العدالة الانتقالية عن العدالة الجنائية، من حيث المفهوم والأهداف والآليات والتحدّيات والبيئة الحاضنة، وعوامل كثيرة. ومصطلح العدالة الانتقالية حديث نسبياً لا يكاد يتجاوز عمره الخمسين أو ستين عاماً تقريباً، بينما العدالة الجنائية ضاربة القدم. وأهداف العدالة الانتقالية بصيغتها التبسيطية النهائية تتلخص في إعادة السلم الأهلي والاستقرار المجتمعي وتجاوز انتهاكات الماضي ومنع إمكانية تكرارها مستقبلاً. أمّا آليات عملها وأدواتها فتختلف من بلد إلى آخر حسب الظروف والإمكانات، لكنّها تستند، في المجمل، إلى مروحة خيارات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، مثل محاسبة مرتكبي الانتهاكات الأشدّ خطورة، وإنصاف الضحايا وتعويضهم، وإصلاح مؤسسات الدولة وإعادة هيكلتها وفق معايير تمنع ارتكاب الانتهاكات وتحترم حقوق الإنسان، وبيان مصير المختفين قسرياً، والبتّ في مصير المعتقلين، وتخليد ذكرى المفقودين والضحايا عموماً.
هناك تحدّيات هائلة تعترض سبل تطبيق العدالة الانتقالية، وليس أقلّها التمويل، فالنقاش يدور عادة بين أولويات إعادة المهجّرين وإعادة الإعمار والاستقرار والضبط الأمني، وبين مفردات المحاسبة والتعويض وإعادة هيكلة المؤسسات، فجميعها في حاجةٍ لأموالٍ لا تكون متوفرة في غالب الأحيان بعد سنواتٍ من الصراع أو النزاع. هنا يدخل دور المجتمع الدولي على الخط للمساعدة في تخطّي هذه العقبات، لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة أيضاً، فقد تشترط الدول المانحة قضايا قد لا تلقى قبولاً مجتمعياً، مثل إلغاء عقوبة الإعدام، إن لم نتحدّث عن اشتراطات سياسية أو غيرها.
ومن التحدّيات الهائلة أيضاً عدم إمكانية محاكمة جميع مرتكبي الانتهاكات، فالمحاكمات تحتاج كوادر قضائية متخصّصة، وتحتاج مرافق لدعم عمليات التقاضي من قاعات محاكم وسجون وجهاز شرطة مؤهل، كما تحتاج أدلّة متوافقة مع المعايير القانونية، وتأخذ المحاكمات أوقاتاً معتبرة من الزمن، وهذا كلّه يحتاج الإعداد والتمويل والتأهيل والتدريب. وحجم الجرائم الهائلة المرتكبة في سورية، منذ اندلاع الثورة فقط، لا يمكن إدراكه أبداً، ولعلّ النظام كان يعرف سلفاً أنّه يصعّبُ عمليات المحاسبة، كلّما أوغل في الدماء والتدمير أكثر وأكثر. وقد دلّت تجارب الدول التي خرجت من الحروب الأهلية أو من عهود الاستبداد، وحاولت إعادة بناء مجتمعاتها من دون المرور بمسارات عدالة انتقالية حقيقية، كيف أنّها ما تزال غارقةً في دياجير الظلم والقهر والفساد والانتهاكات، وأقرب مثالين للسوريين لبنان والعراق. بينما نجد في تجارب رواندا وجنوب أفريقيا أمثلة حيّة على إمكانيّة إنهاء الماضي بإرثه الثقيل مع بناء أسس منع ارتكاب الانتهاكات مستقبلاً. ولا تغيب عن البال خصوصية كل بلد وكلّ صراع وسياقاته التاريخية والمجتمعية، ونحن نرى أنّ الحالة السورية من أعقد حالات الصراع التي شهدتها المجتمعات البشرية في العصر الراهن.
وفي ما يتعلّق بالعدالة التصالحية، يرد في بحث منشور في “مدوّنة برنامج أبحاث النزاع” للباحثة سيما نصّار: “بحسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، تتألف العدالة الانتقالية من الآليات القضائية وغير القضائية على حدّ سواء، بما في ذلك مبادرات الملاحقة القضائية، والجبر وتقصّي الحقائق، والإصلاح المؤسّسي، أو مزيج من ذلك. وأي مزيج يتم اختياره يجب أن يكون متوافقاً مع المعايير والالتزامات القانونية الدولية. ويمكن أن تشمل العدالة الانتقالية أكثر من شكل للعدالة، مثل العدالة الجزائية (المحاكمات)، والعدالة التعويضية والتصحيحية والتحويلية (ضمانات عدم التكرار، والإصلاحات، والتعويضات).
وبحسب وحدة الدعم القانوني في البرنامج السوري للتطوير القانوني؛ فإن العدالة التصحيحية هي شكل بديل لمواجهة الجريمة، والتي يتم فيها التركيز على الضحية وعواقب الانتهاك عليها، بدلاً من التركيز على الفعل الإجرامي والجاني. ويعني ذلك أن الدولة يجب أن تعمل على الاعتراف بمعاناة الضحايا، وتعويضهم وجبر ضررهم، واستعادة كرامتهم، أكثر من معاقبة الجناة. أما الجناة فيجب على الدولة أن تعيد دمجهم في المجتمع، في سبيل إعادة الروابط الاجتماعية. إن العدالة التصحيحية أو الإصلاحية تعتبر العقوبة الانتقامية غير كافية، لأنها لا تعطي معاناة الضحايا واحتياجاتهم الأهمية الكافية. وكذلك هي حال العدالة التصالحية، فهي لا تركز على تقييم ذنب الجاني، بل تركّز على تعزيز الآليات التي تجعله يدرك حجم الضرر الذي تسبب فيه وأبعاده، ويعترف بمسؤوليته عنه، وتدفعه إلى محاولة إصلاحه”.
ويشرح الكاتب محمد علاء غانم هذا المصطلح: “ال Restorative Justice لا تعني عدالة “تصالحيّة” فهذه ترجمة خاطئة، شأنها شأن كثير ممّا يُترجم في الأمم المتّحدة هذه الأيّام. باختصار شديد، ومُخِلّ ربّما، قُدِّمَت ال RJ كمفهوم بديلٍ عن نظام العدل الغربي القائم على العقاب وحسب، والذي يُنظر فيه للجريمة على أنّها تقع بحقّ الدّولة فقط وتقف فيه الضحيّة متفرّجة، في حين يكون القاضي هو سيّد المشهد وهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة…. فالترجمة الأدقّ لها هو العدالة الإصلاحيّة لا التّصالحيّة”.
يقود هذا إلى القول إنّ العدالة الإصلاحية أو التصحيحية جزء من العدالة الانتقالية، وتأخذ وصفها هذا من ضرورات إصلاح مؤسسات الدولة، وفرز الموظفين الفاسدين وإقصائهم عن العمل، لمنعهم من تعطيل عمليات الإصلاح، كما إنّ العدالة التعويضية هي جزء من العدالة الانتقالية، وتأخذ أهميتها عندما نتكلّم عن تعويض الضحايا والمتضرّرين في حرياتهم وأجسادهم وحقوقهم المالية وممتلكاتهم.
أمّا العدالة التصالحية، فهي جزء من مسارات إصلاح أنظمة العدالة الجنائية التقليدية التي فشلت في تحقيق المأمول منها في بلدان متطوّرة عديدة، لكنها تبقى جزءاً من نظام متكامل، ضمن أطر سيادة القانون في دول مستقرّة ذات مؤسساتٍ لها مرجعية عليا متمثّلة في الدستور. فإذا ما حاولنا تطبيقها في مجتمعات ممزّقة جرّاء الثورات أو الحروب الأهلية، ضمن بيئات ينعدم فيها القانون، وتنحاز مؤسسات الدولة مع طرف ضّد الآخر، أو تسخّرها أنظمة الاستبداد لتحارب فيها الفئات الثائرة من الشعب، فإننا سنصل إلى حالة من الإجرام المركّب بحق الضحايا، لأنها ستعني مساواة القاتل بالضحيّة.
المصدر: العربي الجديد