قبل الانهيار الراهن على المستويات كافة، كان لبنان يدور في حلقة لا نفاذ منها. يستمر ذلك منذ سنوات وعقود في مسار، جعله في كل جوانب حياته كوطن ودولة وشعب، مُجرد ورقة في يد لاعب أجنبي، يستعملها حسب حاجاته في اللحظة التي تناسبه وبحسب مصالحه الخاصة .
انتهت الحروب اللبنانية إلى تكريس النظام السوري مديراً للشأن اللبناني. وكانت مصلحة ذلك النظام تقضي بإبقاء لبنان ساحةً لألاعيبه السياسية، جبهة مفتوحة على الحروب الإسرائيلية من جهة وسلطةً مطواعة تستجيب للحاجات السورية من جهة ثانية. لم يلجأ قادة دمشق يوماً إلى مواجهة إسرائيل لتحرير أرضها في الجولان البالغة مساحتها 1800 كيلو متر مربع، وحافظوا منذ عام 1974 واتفاقية فصل القوات على هدوء تام لم تخرقه رصاصة واحدة على تلك الجبهة، في ما يمكن اعتباره الاتفاقية الأولى والأكثر ثباتاً للسلام بين دولة عربية “والعدو الصهيوني الغاصب”، غير أنهم استسهلوا جعل لبنان جبهة مفتوحة ضد ذلك العدو، هو الذي نجا من احتلال أي شبر من أرضه في الحروب الإسرائيلية العربية بما فيها حرب 1976، فشجعوا الفلسطينيين على قتال الجيش الأردني قبل “استضافتهم” في لبنان، الذي سينفجر اقتتالاً بعد شهور قليلة “دفاعاً عن الثورة الفلسطينية” و”حمايةً للدولة والجيش” حسب شعارات فرقاء تلك المرحلة .
رويداً رويداً وضع النظام السوري يده على الشأن السياسي الداخلي. تخلص من معارضيه اللبنانيين وفي مقدمهم كمال جنبلاط، وأبرم اتفاقاً مع إسرائيل برعاية واشنطن، ينظم حضوره في لبنان، حتى الاجتياح الإسرائيلي في 1982، الذي سيتبعه حضور إيراني مباشر يؤسس لولادة حزب الله بإشراف وتمويل الحرس الثوري الإيراني .
أمسك السوريون بالدولة اللبنانية تماماً، لكن الحضور الإيراني فرض وجوده بعد معارك إقليم التفاح والضاحية ضد حركة “أمل” في نهاية الثمانينيات، ولدى إقرار اتفاق الطائف، كان حافظ الأسد نال الإذن الأميركي الثاني بوضع اليد على لبنان بعد مباركته التدخل الأميركي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي .
لم يبقَ في لبنان من يقول لا للقرار السوري، ومن قال لا للاحتلال الإسرائيلي من دون إذن سوري طورد وقتل، وهذا كان مصير جبهة المقاومة وقادتها، وعندما اعتقد رفيق الحريري أن استعادة دور لبنان الاقتصادي والمالي والعلمي ستكون طريقة للالتفاف على الهيمنة السورية وتحقيق السيادة (على الطريقة اليابانية في مواجهة الاحتلال الأميركي)، جرى اغتياله بعد حرب سياسية وإعلامية لشيطنته وعزله، وفي تلك اللحظة التي فرضت إنهاء الوجود السوري كان الإيرانيون جاهزين لتسلم الراية ومواصلة النهج السوري لأهداف خاصة بهم .
أراد نظام الأسد لبنان ورقة مساومة مع الإسرائيليين والغرب، هدفها الأدنى المقايضة مع الجولان، والأقصى ضم لبنان نهائياً، أما إيران فأرادت لبنان، في الحد الأدنى، ورقة مساومة مع إسرائيل والغرب ضمن مشروعها النووي، وفي الحد الأقصى تحويل هذا البلد إلى جزء من دولة الولي الفقيه، كما جاء في الأدبيات الأولى للتنظيمات الإيرانية في لبنان .
قطع المشروع السوري شوطاً كبيراً على طريق تحقيق أهدافه. وإنجازه الأكبر كان إمساكه بالحياة السياسية وغالبية السياسيين. وبدوره أشرف المشروع الإيراني على الدولة من داخلها ممسكاً بأركانها. ومنذ اغتيال الحريري مروراً باحتلال وسط بيروت المديد وصولاً إلى غزوة “أيار المجيدة” واتفاق الدوحة، بات حزب الله قادراً على تحديد وجهة لبنان، وتوج ذلك بإمساكه بالمواقع الرئيسة الثلاثة، رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة.
انتهى الحضور السوري مع ارتكاب جريمة كبرى بحق لبنان، وقاد المشروع الإيراني البلاد إلى أكبر كارثة اقتصادية ومالية وأمنية تمر عليها في تاريخها منذ الحرب العالمية الأولى. لقد كانت موجة الاغتيالات التي أعقبت التخلص من الحريري الأب، الأشنع في تاريخ لبنان. وتكفلت بتطويع النظام العام وربطه بالقرار الإيراني. انصرف من تبقى من الطاقم السياسي التقليدي إلى ترتيب أموره في ظل السيطرة الجديدة، ونشأ ما سيُسمى تحالف الميليشيا والفساد، الذي أفرغ سلطة المؤسسات الشرعية ودولة القانون من أي مضمون، وقاد في النهاية إلى الانهيار الشامل الذي يعيشه لبنان منذ نهاية العام 1919 .
لن يعود بلد الأرز الراسخ في التاريخ إلى حياة طبيعية كبقية بلدان العالم من دون استعادته لقراره ومؤسساته. وفي الحالة الراهنة لن يُستعاد القرار الوطني من دون زوال الهيمنة الإيرانية، التي ستنتهي حُكماً كما انتهت الهيمنة السورية. كيف سيحصل ذلك؟
إنه سؤال طُرح عشية الإيغال السوري في تطويع البلد قبل خروج الجيش السوري في ما يُشبه المعجزة. واليوم أيضاً ليست المُعجزات مستحيلة، ما دام الشعور العام في لبنان يميل إلى مصلحة دولة السيادة والاستقلال، الدولة التي أُرسيت قبل مئة عام، وما زالت حاجة تاريخية على الرغم من تقلبات المنطقة وصراعاتها التي لا تنتهي.
المصدر: اندبندنت عربية