كتب الكاتب السعودي “عبدالمحسن حليت” :
بلغني اليوم نبأ مؤلم ..
توفي يوم أمس السفير العراقي “ر. ع” ولكي تعلموا مبعث حزني وألمي.. فلهذا الحزن والألم قصة لا بد أن تسمعوها ..
في أواخر عام 1994م ، كنت في “روما” أقضي إجازة قصيرة ، مع صديق لي وهو عراقي يعيش ويعمل هناك .. إسمه “يوسف”.
كنا _كما أذكر _ نجلس بإحد المقاهي .. ودار حديث بيننا عن “العروبة” .. وذكر لي “يوسف” قصة خلاصتها..
أنه خلال احتدام الحرب الباردة بين جناحي البعث العراقي والسوري أي بين الرئيسين “صدام حسين” و “حافظ الأسد” ، وصل إلى إحدى العواصم الأوربية شابان سوريان في مقتبل العمر بغرض الدراسة .. وبعد مكوثهكا لأيام في أحد الفنادق الصغيرة ، وقبل أن ينتهيا من إجراءات التسجيل لدخول الجامعة ، سطا لص عليهما وأخذ كل ما كان معهما من مال ، مما جعل صاحب الفندق يهددهما بإبلاغ الشرطة إذا لم يدفعا ماعليهما من مبالغ.
وبالصدفة المحضة ، علم السفير العراقي في تلك العاصمة عن الأمر ، فذهب بنفسه إلى الفندق ودفع من مالة الخاص ما عليهما من مستحقات لهذا الفندق ، ثم أخذ الشابين إلى فندق آخر ، وظل يدفع تكاليف إقامتهما إلى أن انتهت إجرآءات الجامعة .
بعد مدة من الزمن علمت وزارة الخارجية في “بغداد” عن القصة .. وأرسلت إلى السفير استفسارا حول ما فعل تجاه الشابين .. خصوصا أنهما مواطنان سوريان ، وكانت الرسالة كلها انتقاد وتعنيف ولوم وتلويح بالمساءلة حول هذا التصرف .
فما كان من ذلك السفير إلا هذه الإجابة :
سعادة وكيل الوزارة المحترم ……..
تحية الأخوة والزمالة .. وبعد …………
إنني أدرك تماما الوضع الذي نحن عليه مع النظام السوري ، وأنا كسفير ملتزم بكل اللوائح المعمول بها ، وعلى دراية بكل ما يلزمني كسفير لدولة العراق .. لكنني أحب أن أذكر الزميل العزيز أنني لم ولن أنسى أنني “عربي”.
فخلال فترة شغلي الرسمي كسفير .. لم أفعل شيئا تجاه هذين المواطنين العربيين السوريين . لكن حين تنتهي ساعات العمل الرسمية أنا أعود مواطنا عربيا أحس أن كل إنسان عربي في قلبي ووجداني ، وذلك الوقت الذي قضيته في الوقوف مع هذين الشابين كان وقتي وليس وقت العمل ، والمال الذي صرفته عليهما كان من جيبي وليس من جيب السفارة فأنا يا زميلي العزيز موظف عند “عروبتي” قبل أن أكون موظفا عند حكومتي ، وإذا كان فيما قمت به من تصرف يقلل من سمعة وشرف العراق فإنني على استعداد لتحمل كامل المسؤلية بما في ذلك استقالتي فوراً .
دمتم ودام العراق .
وجاءه الرد بعد أقل من ساعة على الفاكس وبخط يد رئيسه قائلا “بيض الله وجهك” .
وأقر وأنا بكامل قواي العقلية أن الدموع كانت تغادر كل خيام الكبرياء في عيني .. وأذكر أن “يوسف” سكت لبرهة ثم بدأ بممازحتي قائلا :
“أبو المحاسن .. آني أعرف إنو لو فيه أكو بنت اسمها “عروبة” كان اتزوجتها .
ثم أردف :
على فكرة .. الرجل هني في “روما” عند بنته اللي تدرس بالجامعة .
وكدت أقفز فرحا .. ورجوت “يوسف” أن يأخذني إليه .. وأذكر أنه نظر في ساعته ثم استمهلني قليلا ليتصل به من تلفون قريب .. عاد بعدها إلي قائلا :
“الرجل ينتظرنا .. ياللا قوم ”
ووصلنا ألى شقة ابنته التي رحبت بنا ثم أدخلتنا عليه .. وحينا رآنا هب مرحبا .. وقبل أن أصافحه أذكر تماما ماقلته له:
سعادة السفير .. المتشرف أمامك مواطن عربي من المملكة العربية السعودية .. أنا ياسيدي لم آت إلى هنا لأشرب فنجان قهوة أو شاي ولا كأسا من العصير .. بل أتيت لأقبل جبينك .. ولم يدعني أكمل ، فانخرط في بكاء إلى أن أشفقت عليه ابنته “عفراء” وأجلسته على كرسي قريب .
ثم نهض وعانقني وهو مايزال يجهش ولم يسلم أحد منا من دموعه لا عفراء ولا يوسف ولا طبعا أنا.
ثم تكرم الرجل وأطلعني على رسالته ورد رئيسه من بغداد ، وطلبت منه نسخا من الرسالتين واستجاب كريما .
هذا الذي يقول لرئيسه ، وخلال فترة حكم صدام حسين:
أنا موظف عند عروبتي قبل أن أكون موظفا عند حكومتي !!!
هذا هو الذي توفي يوم أمس ..
ألا يستحق أن أحزن عليه ؟؟
وأن أتالم على فقده ؟؟
وأن أترنم بقول “البحتري” :
“ولم أرَ أمثالَ الرجالِ تفاوتاً إلى المجدِ حتى عُدَّ ألفٌ بواحدِ “
المصدر: صفحة مجموعة ادلب الخضراء