ثورة رجعية وأخرى تقدمية

حازم نهار

تعني الثورة تغييرًا جذريًا في الواقع. نعم هذا صحيح، ويعرفه الجميع. لكن هذا التغيير ليس تقدميًا بالضرورة، فقد يكون اتجاه التغيير إلى الوراء، زمنيًا وثقافيًا وحضاريًا. الثورة طفرة، لكن ليست كل طفرة ذات مضمون ومسار إيجابيين، أو ينتج عنها خلق جديد متطوِّر. قد تؤدي الطفرة إلى تشوهات جنينية. إذا أردنا أن يكون للثورة revolution مضمون إيجابي، يجب أن نحتفظ لها في وعينا بمعنىً قريبٍ من Evolution، أي معنى قريب من التغيير الذي يؤدي إلى التطور، والتقدم.
في وعينا السائد الذي يقدِّس الكلمات أو يدنِّسها، يصنع منها أصنامًا أو يأكلها، نستغني بالثورة عن التقدم، هذا إن لم تُقتل فكرة التقدم أو يُضحّى بها على مذبح الثورة على حدِّ تعبير إلياس مرقص، بدلًا من أن تقوم فكرة الثورة أساسًا على فكرة التقدم؛ فتقديس مفهوم الثورة لا يعطيه مضمونًا إيجابيًا تطوريًا، وكثرة الحركة لا تنتج حكمًا خطوة نحو الأمام، والصراخ والعويل لا يصنعان تقدمًا.
وكثير من الثورات والانتفاضات والمقاومات “المنتصرة”، في الواقع والتاريخ، أنتجت تغيراتٍ كبيرة، لكن من دون أن تخلق تقدمًا، هذا إن لم تؤدِّ إلى التراجع والتقهقر. هناك ثورات عديدة في التاريخ لم تؤسِّس إلا لاستبدادات جديدة، بل إن بعضها تحوَّل إلى سيف مسلَّط على أعناق الناس، والأمثلة كثيرة عن ثورات ارتدَّت بأوطانها ومجتمعاتها إلى الوراء؛ الثورة الإسلامية في إيران 1979، ثورة آذار 1963 في سورية… إلخ؛ ثورات غيرت مجتمعاتها ودولها تغييرًا جذريًا، لكن نحو الأسوأ. مقاومة حزب الله هي الأخرى مثلًا انتصرت، لكنها ألغت الدولة اللبنانية، وأسَّست للعسف والاستبداد، ووضعت المجتمع اللبناني دائمًا على حافة الحرب الأهلية.
يتحوَّل وعينا السائد الذي ينظر باستخفاف واستهجان للعمل بالمفاهيم، ويُعرِض عن المبدأ والأساس؛ الفكر، إلى معمل لصناعة الأوثان والأصنام ببساطة، يعبد بعضها ويرجم الأخرى. نحتاج حقًا إلى إعادة بناء وتصحيح مفاهيمنا، وإخراجها من الصنمية/ النمطية التي أعطيت لها. إن تفكيك وإعادة بناء مفاهيمنا، الملائكية والشيطانية، عملان مهمان وضروريان، وهما متكاملان ومترابطان من حيث الآلية والهدف، لأن هذه المفاهيم تصنعنا “خلقتنا الكلمات”، وعليها تنبني رؤانا عن الواقع والتاريخ والمجتمعات والدول، وبدلالاتها العلنية والضمنية نمارس الأخطاء في السياسة والخطاب. ومن ثمّ، فإن عمليتي التفكيك وإعادة البناء لا تصبان في خانة الفذلكة النظرية كما يرى بعضنا، بل في صلب سعينا وتوجهاتنا لإنتاج البدائل السياسية والثقافية التي يمكن لها أن تضع الثورة على سكة الفاعلية والتقدم.
الثورة ليست غاية في حدِّ ذاتها، بل التقدم. وهذا الأخير أساسه الإنسان/ الفرد، أي حقوق الإنسان. لا ثورة بلا تقدم محوره الإنسان. التقدم عكسه التراجع أو التقهقر، وهو يفترض ذهابًا إلى الأمام، تغيرًا نحو الأرقى، وهو إن كان يشير إلى مضمون إيجابي أولي، فلا يعني هذا أن نحوِّله إلى صنمٍ ملائكي نعبده هو الآخر. التقدم أيضًا خارج مساحة المقدس، وهو موضع سؤال ونقد ومراجعة دائمًا.
إن الذي سيحرر فلسطين ليس ذاك الذي يكرِّر صباح مساء مقولة تحرير فلسطين. يخطئ من يعتقد أن تكرار كلمة الثورة؛ الثورة المباركة، الثورية، المشروعية الثورية، السوري الثوري، العمل الثوري، الحراك الثوري، القوى الثورية، الحرب الثورية، الفصائل الثورية… إلخ، هو الذي يحافظ على الثورة السورية. تكرار المقولات والشعارات قد يخدم في سياق التضليل أو التجهيل؛ نصف قرن ونحن نردِّد “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة. أهدافنا: وحدة، حرية، اشتراكية”، وهذا لم يخدم أبدًا، لا في توسيع مداركنا، ولا في إنجازنا على الأرض على مستوى أي اسم أو هدف صدحنا به.
فالتكرار قد يكون مقصودًا بهدف تضليلنا، ومنعنا من النقد والمراجعة، ومن رؤية أن الواقع يسير في اتجاه معاكس لصراخنا. كما قد يكون وسيلة للإمعان في تجهيلنا، لأن الأثر الملازم للتكرار هو الإعراض عن، أو إدارة الظهر لـ، ما نكرِّره، وأحيانًا الاشمئزاز منه. أذكر أنني، في المدرسة الابتدائية، كنت أردِّد الشعار والأهداف يوميًا بوصفي عريف المدرسة، ويردِّد الطلاب بعدي ما أقول، لكن في إحدى مسابقات الفصاحة والخطابة على مستوى القطر، سألني الأستاذ بعد وصولي إلى المرحلة النهائية: ما شعار حزب البعث وأهدافه؟ لم أعرف، على الرغم من أنني أردِّد ذلك يوميًا في الاجتماع الصباحي، وعند مغادرة المدرسة.
أما مصطلح (الشرعية الثورية)، فقد ردّده كثيرٌ من الأشخاص “المعارضين” أو “الثوريين”، في السنوات الأولى للثورة السورية، لتمرير بعض المسائل بسرعة، بحجة ضغط الوقت أو لتمرير ما لا يُمرَّر، أو استنادًا إلى منطق سطحي وانفعالي: تبجيل الثورة في مقابل احتقار وازدراء التفكير السياسي. (الشرعيات الثورية) التي تفتقر إلى الفكر السياسي، عبر التاريخ، تتحول تدريجًا إلى عصابات خارج السلطة أو إلى عصابات في السلطة. الثورة بلا تفكير سياسي، أو بلا فكر سياسي، تضيع وتتوه، وتدخل في زواريب أصحاب (الشرعيات الثورية)، وما أكثرهم! أولئك الذين يأخذوننا من حالة الصراخ بالشعارات الكبرى (إسقاط النظام)، تدريجيًا، إلى التوهان على موائد التسويات الصغيرة، من دون أن يطرف لهم جفن، وبلا خجل!
في بداية الثورة السورية، حدث تباعد بين الثورة والسياسة، وجرى تبجيل الثورة في مقابل احتقار السياسة، وبُني الخطاب بوحي من “اللحظة الثورية”، وسيطرت رؤية علنية أو ضمنية تنظر إلى السياسة بوصفها انتهازية أو مهادِنة أو تصالحية، في مقابل الثورة التي يُنظر إليها بوصفها طهرانية ومنبع الصدق وأساس حلّ مشكلاتنا جذريًا. هذا التنميط للكلمات، تقديسًا أو تدنيسًا، يفرض نفسه على أعمالنا ومبادراتنا وخياراتنا وأحكامنا، لنكتشف في مسار الواقع مدى ضلال معاني وصور الكلمات والمفاهيم التي نختزنها في عقولنا. في بدايات الثورة الفلسطينية المحقة ضد الاحتلال الإسرائيلي كان الفدائي أو “الثوري الفلسطيني” مقدسًا بحكم نبل وأحقية القضية التي يعمل من أجلها، لكن هذا التقديس قد تغيَّر مع تنامي الفصائلية الفلسطينية.
الثورات والصراعات والحروب مراحل قاسية ومؤلمة، وفيها خسارات لا تعوّض، وأهمها بالطبع على مستوى الأرواح، لكنها -مع ذلك- تبقى مؤقتة أو محدودة زمنيًا، بينما السياسة ذات طبيعة دائمة، وحاضرة ومؤثرة في كل لحظة، اليوم وغدًا وفي كل وقت، في أوقات الثورة والسلم والحرب والبناء والإعمار.
أدوات السياسة هي الأحزاب السياسية، النخب الثقافية، منظمات المجتمع المدني (ومن ضمنها النقابات)، الرأي العام المحلي والعالمي، الإعلام، العلاقات مع القوى الاقتصادية في المجتمع… إلخ، وتبقى الأحزاب السياسية أهم أدوات السياسة، لأنه من دونها لا معنى للنظام الديمقراطي المنشود؛ فأسّ الديمقراطية هو التنافس السلمي، ومن ثمّ عندما تغيب الأحزاب لا معنى للتنافس من أساسه. تعني الثورة في الحصيلة بناء نظام سياسي بديل، نظام ديمقراطي، ولبنائه نحتاج حكمًا إلى أدوات السياسة؛ ماذا نمتلك من أدوات السياسة، من أجل بناء نظام سياسي جديد، الآن وغدًا؟ هل يمكن البناء اعتمادًا على الأحزاب الأيديولوجية التاريخية (القومية والإسلامية واليسارية)؟ هل تستطيع الأحزاب القديمة المهشمة فكريًا وسياسيًا وتنظيميًا أن تبني حجرًا في بناء النظام المأمول؟
تعرضت الثورة السورية لـ “الغدر” خارجيًا كما يُقال، لكنها تعرضت لغدرٍ أشد داخليًا؛ تُهزم الثورة بمعناها الإيجابي إن هي حادت عن الخطاب الوطني، وما حصل عند بعضنا ليس له من تعبير سوى أن الثورة أكلت الوطنية بدلًا من أن تجعل منها بوصلتها على طول الخط. إن أكثر ما يسيء إلى الثورة والوطنية معًا هو العقل الأيديولوجي، وعقل المشروعية الثورية، وعقل الأسلمة والتطييف، وعقل الصنمية، والعقل الذي ينكر مشروعية الاختلاف والتفاوت والتعدّدية.
الثورة السورية معنية ببناء دولة، والدولة المفترضة هي دولة جميع السوريين، دولة من كانوا مع الثورة، ودولة من كانوا ضدها، على حد سواء، وبالقدر نفسه، وهذه هي وطنيتها. أما المحاسبة على القتل والفساد، فيفترض أن تكون منطلقاتها ومرتكزاتها واحدة، وبمعايير حقوقية وقانونية واحدة، مع الأخذ في الحسبان المسؤولية الرئيسة لأركان النظام والمتنفذين في السلطة.
لا يمكن صون الثورة السورية إلا بتغذيتها بمسألتين؛ الأولى الوطنية، والثانية التقدمية. من دون الوطنية والتقدمية، نصبح أمام شيء آخر، إما أمام ثورة رجعية على شاكلة ثورات كثيرة، أو أمام حالة تكفّ عن كونها ثورة بالمعنى الإيجابي الذي نختزنه في وعينا على أقل تقدير.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى