خطفت بلدة “عين عيسى” مؤخراً الأنظار من جبهة إدلب الجاهزة دائماً للتسخين. لبلدة عين عيسى موقع استراتيجي لم يكن يُشار إليه قبل التصعيد الأخير، فهي على مفترق طرق بين مدينتي الحسكة والقامشلي ومدينتي منبج وكوباني/عين العرب، أي أن هذه البلدة الصغيرة التي لم يسمع بها من قبل معظم السوريين هي نقطة الاتصال بين أماكن سيطرة قسد والإدارة الذاتية الكردية، والسيطرة عليها من سلطة الأسد أو من الفصائل التابعة لتركيا ستتوج ضعضعةَ وإضعاف الجانب الكردي، أو تستهل تقويض مشروع الإدارة الذاتية برمته.
اشتداد الضغوط المتعلقة بالسيطرة على عين عيسى الآن محسوب على توقيت واشنطن، حيث يحاول الجانبان الروسي والتركي استغلال الأيام الأخيرة من ولاية ترامب لتحصيل مكاسب على حساب الجانب الكردي الذي يحظى برعاية أمريكية. بحسب التوقعات الشائعة، قد تحظى الإدارة الذاتية بدعم أكبر من رئاسة بايدن، على حساب العلاقة مع الحليف التركي وأيضاً بسبب ما هو منتظر من تراجع في العلاقات الأمريكية-الروسية. أي أن الأسابيع الأربعة المتبقية ستكون ثقيلة على قسد، ما لم تضع إدارة ترامب “بموافقة جنرالات البنتاغون ثقلها” للحفاظ على مناطق تقاسم النفوذ الحالية.
من جهة موسكو، سيكون اقتطاع أي جزء من مناطق النفوذ الأمريكي بمثابة مكسب وانتصار يفوق الانتصارات الأخرى، لأن الوجود الأمريكي هو ما يردعها عن إعلان سوريا بأكملها منطقة نفوذ خاصة بها. أما أنقرة، وكما كان الحال سابقاً، فهي تريد توسيع مناطق نفوذها في سوريا على حساب الميليشيات الكردية، وإذا لم يتحقق هذا لا تمانع في سيطرة الأسد على مناطق تلك الميليشيات. لقد حصلت أنقرة من قبل “بموجب صفقات معروفة” على عفرين ثم على المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين، ووجود واشنطن كطرف في الصفقات هو ما منع تسليم تلك المناطق للأسد، لكن موسكو قبضت الثمن أيضاً، مرة في الغوطة ومرة في ريف حماة وإدلب.
من المعروف والمفهوم ذلك الهاجس الكردي الذي يؤرق أنقرة، ويجعلها تفضّل سيطرة الأسد على سيطرة الميليشيات الكردية. وهي بضغطها الحالي على عين عيسى تغامر باحتمال أن تذعن قسد للضغوط الروسية وتسلّم البلدة للأسد، وكانت موسكو قد سارعت قبل يومين إلى إنشاء قاعدة لها على مشارف البلدة تحسباً لمختلف السيناريوهات. ما ليس مفهوماً، أو مبرراً، انضواء المعارضة السورية تحت الهاجس التركي، لدرجة تبني الضغط الذي قد يعيد سيطرة الأسد بما يعني أن عداءها لقسد يفوق عدائها للأول.
لقد أثبتت قسد من طرفها أن عداءها لفصائل المعارضة لا يُقارن بطبيعة علاقتها مع الأسد، وكما هو معلوم لم تكن الميليشيات الكردية يوماً من ضمن الثورة عليه، بل تُتهم من قبل أحزاب كردية بقمع الشباب الكردي الثائر في بدايتها. لكن استحضار البدايات لا ينفع اليوم، فكثير من الدماء قد جرت، ومعها تغير الكثير من وجهات البنادق، وأي كلام في السياسة لا بد أن يلحظ تلك المتغيرات، حتى وهو يزعم الحفاظ على ثوابتٍ ما.
من المتغيرات التي لا يجوز التغاضي عنها ابتعادُ قسد عن الأسد بقدر ما تستفيد من المظلة الأمريكية، وبقدر ما تمنحها الأخيرة من ضمانات بعدم التخلي عنها وتركها فريسة للمتحفزين، سواء من جانب تركيا والفصائل التابعة لها أو من جانب موسكو وقوات الأسد. بناء على ذلك، أصبح هناك في قسد تياران واحد منهما مخلص لقيادات حزب العمال الكردستاني، ما هو موجود منها في سوريا وما هو موجود في جبال قنديل، والثاني يميل إلى فصل القضية الكردية السورية عن نظيرتها التركية، لما لكل منهما من خصوصية وأيضاً على أمل التخلص من الضغط التركي على أكراد سوريا والتخلص من ضغط تصفية حسابات القضية الكردية التركية بدماء أكراد سوريين.
في الوقت نفسه لم نلحظ ديناميكية جديدة من هيئات المعارضة الرئيسية إزاء تلك المتغيرات، والبعض من الديناميكية مطلوب بحكم الضرورة السياسية. مثلاً تعوّل المعارضة على الضغط الأمريكي لإجبار موسكو وطهران والأسد على تقديم تنازلات، وجزء من آلة الضغط الأمريكية متصل بالاعتماد على قسد مع وجود عدد محدود من القوات الأمريكية في المنطقة. لا يوجد في الأفق إطلاقاً لتغيير هذه الوضعية، كأن تتولى فصائل المعارضة السيطرة على المنطقة “بدلاً من قسد” بإشراف أمريكي، مثلما لا يوجد ضمانة أكيدة كالوجود الأمريكي لبقاء أية منطقة خارج المطامع الروسية. قراءة هذه اللوحة ضرورية من باب الواقعية السياسية، والبناء عليها بموقف متقدم لا يحابي قسد ولا يعاديها، على نحو أعمى.
في الثوابت، خلال عشر سنوات لم تُقدِم المعارضة على مبادرة تجاه المسألة الكردية، ولو لتقوية موقف “المجلس الوطني الكردي” المنضوي في الائتلاف أمام جمهوره. على الضد من ذلك، ارتكبت المعارضة كل ما من شأنه تشويه صورة أحزاب المجلس أمام الجمهور الكردي، ثم لم تخفِ اعتراضها على الحوار الكردي-الكردي، بدلاً من محاولة استخدام هذا الحوار جسراً لحوار كردي-عربي لا بد منه، بل من الأفضل للطرفين الإسراع به بعد أن تأخر لسنوات.
ثم إن هذه الفوبيا تجاه الشأن الكردي دفعت، وستدفع المعارضة برعاية تركية، إلى قبول صيغ ليست في مصلحة السوريين والتغيير الديموقراطي عموماً. في طليعة ذلك الإصرار الشديد على فكرة المركزية، والتخوف المرضي من أي كلام عن اللامركزية بوصفه تهديداً لوحدة التراب السوري، إذ من المعلوم أن المركزية في بلدان لم تنجز التحول الديموقراطي هي أفضل بيئة لمعاودة الاستبداد.
بلا محاباة، وبلا مخاوف حقيقية أو مصطنعة للتغطية على رهانات أسوأ، لن تختفي المسألة الكردية بتجاهلها، أو بالقطيعة مع ممثليها أو جزء منهم. هناك في المقلب الكردي الكثير مما لا تتفق معه المعارضة أو أنصارها، أو ربما غالبية من السوريين بين معارضة وموالاة، إلا أن السياسة في واحد من أهم متطلباتها هي مواجهة ما لا نحب.
المصدر: المدن