لطالما كانت مقولة “التاريخ يكرر ذاته” محط انتقاد من قبل فريق مقابل يرى في التاريخ الإنساني سيرورة بشرية غير قابلة للتكرار أو الاستعادة، وإن تشابهت الظروف والمعطيات المحيطة، أو تناظرت الشخصيات المحورية المؤثرة في صناعة الحدث الإنساني أو التاريخي، لكن صدقية المقولة المتقدمة، تنبع في الوقت عينه، من ملامح التشابه الكبير الذي يحيلنا إلى استعادة المعطيات وتحليلها واستقراء مساراتها، للخروج بنتائج قد تماثل تلك التي قورنت بها.
قبل نحو ثلاث سنوات تقريبا، وتحديدا في 18 يناير كانون الثاني عام 2018 انطلقت عملية “غصن الزيتون” المشتركة بين الجيشين التركي والوطني السوري للسيطرة على مدينة عفرين شمالي حلب، وإخراج عناصر قوات سوريا الديمقراطية منها، بعد أن كانت منطقة عفرين “جيبا معزولا” عن المشروع الذي تتبناها بعض الميليشيات الانفصالية لتكوين “كانتون” أو إقليم ذاتي الحكم شمالي سوريا.
نحو نصف مليون نسمة من سكان المدينة المعروفة بزيتونها وزيتها، يضاف إليهم مثلهم من النازحين إليها، ترقبوا ما ستؤول إليه العملية التي جاءت بعد أقل من عام على عملية “درع الفرات” لطرد عناصر تنظيم الدولة من الشريط الحدودي السوري التركي عام 2017، لكن سير المعارك والتفاهمات التي سبقت انطلاق العملية “أي غصن الزيتون” كانت تشي بسير سلسل لها، ومناوشات “محدودة” انتهت حينها بانسحاب قوات سوريا الديمقراطية من مدينة عفرين ذات الدلالة والحمولة “الرمزية” ضمن طموح “قسد” السياسي.
تبدو قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على مفترق طرق شبيه بذاك الذي عايشته قبل نحو 3 أعوام، في ظل محاولات روسية واضحة لابتزازها
تبدو قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على مفترق طرق شبيه بذاك الذي عايشته قبل نحو 3 أعوام، في ظل محاولات روسية واضحة لابتزازها بغية تسليم بلدة عين عيسى “العاصمة السياسية لقسد” الواقعة على بعد 37 كيلومتراً عن الحدود السورية – التركية. ورغم حالة الشد والجذب بين الروس وقسد والإيحاء بإمكانية تسليم المدينة إلى الروس والنظام، بعد إرسال قافلة عسكرية روسية مؤلفة من 15 مدرعة عسكرية وناقلات جنود، وصلت إلى القاعدة الروسية في مدينة القامشلي، إلا أن هذه المناورات العسكرية – السياسية لا تبدو بعيدة عن تلك التي سبقت عملية “غصن الزيتون” وتشبه محاولات قسد استجلاب بعض عناصر الميليشيات الموالية للنظام إلى تخوم عفرين حينها.
ورغم محاولة قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، كسب الوقت والقيام بمناورات سياسية لاستبدال عناصر ميليشيا PKK ضمن صفوفها بعناصر سورية، لتأمين المطالب الروسية التركية المشتركة، وإبعاد شبح تسليم بلدة عين عيسى للنظام، كونه يشكل بوابة واسعة لتسليم مناطق أخرى تحت الذريعة ذاتها، وهي تفادي عملية عسكرية تركية، فإنها تدرك أنها في موقع “ضعيف” سياسيا وعسكريا في مواجهة التحدي المقبل، على الرغم من شبكة علاقاتها الدولية والإقليمية مع عدد من دول الاتحاد الأوروبي التي لم تمنع حينها (عام 2018) انسحابها من مدينة عفرين وتجنب المواجهة العسكرية، إن جاز لنا التعبير، مع القوات المشتركة لعملية غصن الزيتون، ما يعني أن قوات سوريا الديمقراطية تجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر، بين سندان العملية العسكرية المرتقبة، والتسليم غير المشروط والرضوخ لإملاءات النظام في عين عيسى وغيرها من المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
تركياً، تبدو أهداف أنقرة متمحورة حول عدد من النقاط التي تتقاطع مع الموقف الروسي، وفي مقدمتها قطع التواصل الجغرافي لقوات سوريا الديمقراطية التي شكلت قلقاً كبيراً لتركيا خلال العامين الماضيين، من خلال استهدافها بين الحين والآخر للمناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، لا سيما في مدن عفرين وراس العين واعزاز والباب، فضلاً عن وضع نهاية لحلم تكوين “كيان كردي” على التخوم التركية السورية. والتحركات التركية الحالية تشير إلى سباق أنقرة مع الزمن لتوسيع مناطق سيطرتها في الشمال السوري، قبيل وصول الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني المقبل.
روسياً، فإن صمت موسكو حيال التحركات التركية وعدم الاعتراض عليه علنا، يحيلنا إلى الظروف المحيطة بعملية غصن الزيتون، ويضع مصير بلدة عين عيسى الحدودية، وربما مدينة منبج أيضا، بين أكثر من سيناريو، ستتضح معالمه خلال الأيام المقبلة، لكن غالب الظن أن تلقى العملية التركية غض طرف روسي عنها.
أما الولايات المتحدة الداعم الرئيسي لـ”قسد”، فهي مشغولة بتبعات الانتخابات الرئاسية، ولم تقم حتى الآن بأي رد فعل سياسي من أجل تدعيم موقف قسد في مواجهة الابتزاز الروسي، والتصعيد التركي، بانتظار تسلم إدارة بايدن مهامها، لكن من المتوقع ألا تبدي الإدارة الأميركية اعتراضا كبيرا (في موقف مشابه لعملية غصن الزيتون) لا سيما إن جرت العملية في وقت تسلم وتسليم المهام في واشنطن بين بايدن وترامب.
هي عوامل تتكثف وتتقاطر، وربما تتشابه إلى درجة التطابق، لرسم سيناريو جديد في شمال سوريا، لا يبدو غريبا عما جرى ويجري منذ سنوات، لكن الشيء الوحيد المستغرب فيه، هو حالة “المفاجأة” التي يعيشها بعض السوريين إزاء كل تحرك مشابه سبق أن عايشوا تجربته.. ليدركوا تشابه النتائج المتمخضة في كل مرة!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا