لا يُذكر “الربيع العربي” حالياً إلا باستهزاء ممن عادوه، أو بمرارة ممن تحمسوا له وراهنوا عليه. دعكم من التسمية التي تثير حساسيات، وهي جاءت سريعاً من أدبيات غربية استُنبطت من كفاح مجتمعات أوروبية شرقية للانعتاق من أنظمة استبدادية خاضعة لروسيا السوفياتية. انظروا الى الحدث العربي بواقعية، لا كما بدأ قبل عشرة أعوام، بل كما اعتمل طيلة ثلاثة أو أربعة عقود قبل أن ينفجر.
فالاعتقاد بأن الأوضاع في البلدان التي انتابتها “عدوى الربيع” كانت طبيعية وعادية ينطوي على إنكار للحقائق، ولحقوق الشعوب وطموحاتها، إذ إن توقّعات خبراء أجانب ومحليين كانت مؤرقة، مستبقة الانتفاضات الشعبية بسنين، لأن الصورة الزاهية التي أظهرتها الأنظمة كانت مزيّفة وخادعة.
أمّا القول بأن الثورات والانتفاضات لم تقدّم البدائل الصالحة فهو حُكمٌ صحيح في ضوء نتائجها، لكنه ناقصٌ ومبتسرٌ بتناسيه مقدّماتها، لأن دراسات كثيرة سبقتها وحضّت بإلحاح على الإصلاح السياسي، وخاصة الاقتصادي، بل حذّرت دائماً من انفجار يقود الى فوضى تصعب السيطرة عليها. إذاً، فـ”الحكمة” والتبصّر المطلوبان كانا مُفتقدَين لدى الحكام، ولا أحد يتوقّع حكمةً من شعب غاضب أخرجه الظلم المتراكم الى الشارع.
دعكم أيضاً من الدراسات والتحذيرات إذا لم تكن كافية ومقنعة، فالولايات المتحدة والدول الغربية تولّت منذ عام 2004 قرعاً متواصلاً لنواقيس الإصلاح والدمقرطة وإعادة هيكلة الاقتصاد في البلدان العربية، تارةً ببيانات مشتركة متّزنة وطوراً بإملاءات أميركية فظّة، موجّهة تحديداً الى الأنظمة. وقد ركّزت كلها على ما يمكن إجماله بدعوة الدول المعنيّة الى تطبيق دساتيرها، فهذه تنصّ على “مؤسسات” و”حقوق إنسانية” و”حريّات” و”مواطنة” و”توزيع عادل” للثروات والتنمية و”انضباط” مفترض للمؤسسات العسكرية والأمنية، لكن منظومات التسلّط والفساد فرضت ترجمةً منحرفة للقوانين وأنتجت حُكماً متفلّتاً من أي مراقبة أو محاسبة.
في العام نفسه، 2004، انعقدت قمة عربية على مرحلتَين في تونس، في الأولى كان وزراء الخارجية يراجعون القرارات النهائية عشية وصول قادتهم، وكان بندها الرئيسي نسخة ملطّفة من التوصيات الإصلاحية (الأميركية)، لكن تعديلات مقترحة من بعض الوفود جعلت الرئيس التونسي الراحل، المتنصت على النقاش، يتعامل مع لقاء الوزراء وكأنه لقاء لخلية معارضة، فأوفد مَن يطلب فضّ الاجتماع وأرجئت القمة. أراد زين العابدين بن علي إقرار التوصيات كما وردت، وفيها ما يناقض نهجه في الحكم، وإلا فإنه لن يستقبل القمة.
عندما انعقدت فعلاً بعد شهر، كانت المشاورات بين العواصم قد توصّلت الى أن هذه ليست أول ولا آخر توصيات تقرّها القمة، وأن الموافقة عليها لا تعني بالضرورة الخضوع لها. لكن ذلك لم يمنع الرئيس المصري الراحل من الاحتجاج وطلب تعديلات، فيما تعامل الراحل معمر القذافي باستهزاء مع القمة عموماً، ولم يجد الرئيس اليمني الراحل ولا رئيس النظام السوري المستمر في منصبه ضرورة لافتعال مشكلة. ومذّاك أصبحت القمم تستعرض سنوياً “ما أنجز” في بند الإصلاح، الى أن أوقفتها الانتفاضات الشعبية… فلا الإملاءات والتوصيات الخارجية نفعت، ولا الواقع الداخلي كما تعرفه الأنظمة جيداً ساهم في حفزها على التغيير.
لذلك، ينبغي الإنصاف في تقويم الواقعة المسماة “الربيع العربي”، إذ لا سبب من دون مسبِّب. فمَن يقول اليوم – عن حق – إنها مسؤولة عما آلت اليه الدولة والمؤسسات والاقتصاد في بلدان الانتفاضات، لا بد من أن يقرّ – عن حقّ أيضاً – بأخطاء الأنظمة السابقة في التعامل مع شعوبها. وعندما ردّد شباب الثورة التونسيون، قبل أيام، أن لا شيء تغيّر، فإنهم كانوا يشيرون الى أن أسباب سوء أحوالهم لا تزال هي ذاتها، فلا الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية تحسّنت ولا الديموقراطية والحريات جاءت بفرص العمل والعيش الكريم. قبل الثورة لم يكونوا حتى قادرين على مثل هذه الشكوى المشروعة. وخلال العقد المنصرم نوقشت كثيراً “نجاحات” معادلة “الاستبداد والاستقرار” على رغم انكشافها، مقابل إخفاقات محققة لـ”الديموقراطية والبؤس” مع أنها لا تزال معادلة آنية. لكن أي “استقرار” لا يتحقق إلا بسياسات عامة، عادلة ومتوازنة، تشمل كل القطاعات في آنٍ.
هل كان الحدث العربي “مؤامرة”؟ هو كذلك في أذهان كثيرين ممن تُطلَق عليهم أوصافٌ شتى، منها “القوى المضادة” أو “الدولة العميقة”، إذ يأخذون بقاعدة “المستفيد من الجريمة” ليصوروا ما حدث كأنه تدبير مفتعل، غربي أو بالأحرى أميركي. ودليلهم الى ذلك أن دولاً ومؤسسات درّبت شاباتٍ وشباناً عرباً على تنظيم التظاهر والاحتجاج والاحتكام لمبادئ حقوق الإنسان وكشف الخلل في تطبيق القوانين… لكن ما سبق الانتفاضات من انتهاكات سلطوية، فيها القتل والتعذيب والإخفاء والخطف، لم يكن من صنع “المؤامرة”. وعندما وقعت الانتفاضات ونشأت أوضاع مختلّة أو اندلعت حروب أهلية، فتحت الأنظمة المهدَّدة الأبواب للتدخلات الخارجية. في سوريا كانت إيران حاضرة منذ الساعات الأولى، وفي اليمن كانت هناك تنتظر لحظتها مع الحوثيين، وفي ليبيا كان المتدخّلون المتعددو الجنسية، وأضيف إليهم الأتراك أخيراً. المفارقة أن أحداً لا يصف تلك التدخّلات بـ”المؤامرة”.
لا تكتمل العودة الى المقدّمات من دون الإشارة الى دور الإسلاميين، من “إخوان” وغيرهم، فهؤلاء تصوّروا أن “الربيع العربي” لحظتهم التاريخية، أو أنهم وحدهم المخوّلون وراثة الأنظمة المتساقطة، ولما انكشف عدم اختلاف عقليتهم عن تلك الأنظمة وافتقادهم الأهلية والكفاءة والقبول المجتمعي، راحوا يفسدون المراحل التالية، وصولاً الى تفريخ جماعات الإرهاب أو إيوائها، وإلى تغذية التداخل والالتباس مع أهداف إيران وميليشياتها أو مع أهداف تركيا وطموحاتها السلطانية. لعل الانتفاضات أظهرت أمراضاً سياسية كانت كامنة، لكن الأنظمة طمستها ولم تهتم بمعالجتها، لا بمقدار من الديموقراطية ولا بمقدار من الإصلاح، وبذلك تحكّمت الأنظمة بمن سيخلفها.
المصدر: النهار العربي