وفي الذكرى السنوية العاشرة للربيع العربي، التي تستعاد هذه الايام، لا يمكن لأحد أن ينكر بأنه كان هناك مصدر إلهام رئيسي تمثل بانهيار المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية التي تحولت غالبية بلدانها الى دول ليبرالية ديموقراطية، وإلتحقت بالعالم الغربي وكتله ومؤسساته وثقافاته، في عملية إستغرقت أقل من عشر سنوات، من دون مقاومة تذكر من الأجهزة العسكرية والامنية، ومن دون ممانعة من الهيئات الدينية الكنسية.
لكن هذا الإلهام الاوروبي للربيع العربي، الذي لا يُعترف به كثيراً، إحتاج الى عقد إضافي أو أكثر لكي يتكئ على حدث تاريخي أيضاً، تجسد في الغزو الاميركي للعراق الذي سجل نهاية النظام العربي القائم منذ أربعينات القرن الماضي، وتصفية أحد أسوأ رموز ذلك النظام، المتمثل بحكم الرئيس العراقي صدام حسين.. ما أثار الخوف لدى بقية الحكام العرب، والأمل لدى بقية الشعوب العربية، بأن سقوط مستبد عربي، ربما يكون مقدمة للإطاحة بزملائه الآخرين، حتى من دون الحاجة الى غزو أو إجتياح خارجي.
كان صدام مثالاً، وكانت أميركا عاملاً مؤثراً، في تشكل ذلك الوعي العربي العام بأن الانظمة الحاكمة إستنفذت غرضها عند الاميركيين، واضاعت فرصتها للبقاء، من دون إصلاح جذري، لا يقتصر النص الديني، الذي وضعته هجمات 11 أيلول سبتمبر العام 2001 في قفص الاتهام، بل يشمل أيضاً مختلف أنماط الحكم وتقاليده السائدة في جميع البلدان العربية من دون إستثناء، جمهورية كانت أم ملكية.
كان مشهد إعدام صدام، وإنتشار القوات الاميركية في العراق وجواره العربي، راسخاً في أذهان الجمهور العربي الذي خرج في مثل هذه الايام من العام 2010 الى الشوارع والساحات للمطالبة بحقوقه الاجتماعية، ليكتشف على الفور ان الحكام العرب مرتعبون فعلاً من الحشود الشعبية وعاجزون أمام المطالب المعيشية العفوية.. وليلاحظ أن الاميركيين داعمون للإصلاح والتغيير، ومتحمسون للجيل العربي الجديد الذي يطالب بالعدالة الاجتماعية لكنه ينادي أيضاً بالحرية والديموقراطية.
على هذا الأساس، مضى الربيع العربي في سنواته الثلاث الاولى، ونجح في إزاحة ثلاثة مستبدين، وتهديد رابع أو أكثر، وأرسى، في التجربة المصرية والتونسية بشكل خاص، فكرة الانتخابات الدورية كسبيل لتداول السلطة، وهو ما بدا في حينه إختراقاً تاريخياً للأفق السياسي العربي المسدود، أثار الذعر في السعودية والامارات تحديداً، وغيرهما من الممالك والجمهوريات العربية، التي هالها منظر الطوابير الطويلة أمام مراكز الاقتراع في مصر وتونس، ودفعها الى إعلان التعبئة لإحباط تلك التجربة، بذريعة أنها أفسح المجال للاسلاميين للامساك بالسلطة، بتواطؤ مزعوم بينهم وبين إدارة الرئيس الاميركي الاسبق باراك أوباما.
وهنا، كان الإنقلاب في الموقف الاميركي من الإحتفاء بالربيع العربي الى التحذير من مخاطره حاسماً في كبح جماح الجمهور العربي، وفي وقف سيناريوهات تساقط الطغاة العرب، وفي تجديد التحالف معهم بوصفهم شركاء سياسيين وأمنيين مريحين ومطمئنين، يخففون العبء عن القوات الاميركية في حملتها على الارهاب، ويضاعفون الاستثمار في الاقتصاد الاميركي.
الثابت، أن أوباما الذي قاد بنفسه هذا الانقلاب، هو الذي أنهى الربيع العربي، بعدما كان أشد المتحمسين له، وكانت مشاركته في الثورة المضادة في مصر خاصة، ومباركته الحملة العسكرية الروسية والايرانية في سوريا، خاتمة لذلك الفصل المشرق من التاريخ العربي.. ما أتاح لخلفه دونالد ترامب أن يطور تلك الشراكة مع أعداء ذلك الربيع، ويستخدمها كوسيلة لابتزازهم، ثم لجلبهم صاغرين الى إسرائيل..الحليف الطبيعي الأول للطغيان العربي، والشرطي المكلف بأمن المشرق والخليج العربيين.
للذكرى العاشرة، أهمية وحيدة ربما، كونها مناسبة لتجديد ذلك السؤال المركزي حول الموقف الذي سيعتمده الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن، وما إذا كان سيدخل تعديلاً على تجربة أوباما المتقلبة والبائسة التي كان شريكاً في صياغتها، أم أنه سيلتزم المسار الذي حدده ترامب، والذي ثبت في السنوات الاربع الماضية أنه أشد إنسجاماً مع الثقافة السياسية الاميركية وأكثر جدوى لمصالحها، من التعلق العابر بأحلام ربيع عربي، لم يبق منه سوى بعض الذكريات المؤلمة والطموحات المؤجلة.
في الذكرى، تروج تنبؤات بأن الربيع العربي على وشك أن يتجدد، في هذا البلد العربي أو ذاك. وهو تقدير منطقي، لكن الحتمية التاريخية التي يضمرها، تأخرت سبع سنوات عجاف، زادت فيها الضغوط والقيود الأمنية والسياسية، وتضاعفت فيها الاعباء المعيشية والاقتصادية، ما يثير الشك في أن يعتمد الربيع الآتي، حتما، الدينامية السلمية نفسها التي سار على هديها الجيل السابق..قبل ان ينتهي به الأمر في القبور والسجون والمنافي.
وفي هذه الحالة ، لن يكون لبنان إستثناء أو شاهداً من بعيد.
المصدر: المدن