قراءة في رواية: قصر الحلوى

أحمد العربي

إليف شافاق روائية تركية متميزة جدًا، قرأت أغلب رواياتها المترجمة إلى العربية، وكتبت عنها.
تبدأ الرواية بسرد من كاتبها -المفترض- الذي يتبين أنه معتقل سياسي حكم عليه بالسجن لمدة سنة وشهرين، وأنه كتبها في ما يزيد عن الشهرين. تتحدث الرواية عن جنرال من روسيا البيضاء جاء مع زوجته إلى إسطنبول بعد الثورة الروسية عام ١٩١٧م، هربا من احتمال أن تطاله الثورة بالانتقام، عاش مع زوجته قليلا من الوقت في اسطنبول ثم غادرها إلى فرنسا حيث يعيش ابنه هناك، في فرنسا دخل المجال التجاري وأصبح لديه رأس مال جيد، ولأنه عاش عمرا مديدا فقد قرر العودة مع زوجته إلى اسطنبول في خمسينيات القرن الماضي، واشترى أرضا وبنى عليها بيت بخمس طبقات سماه قصر الحلوى، كل طابق يحتوي شقتين، بدأ يستثمر شققه للتأجير ، استمر بذلك إلى أن توفي هو وزوجته، حيث انتقلت ملكية البيت إلى حفيدته في فرنسا، التي تابعت تأجير البناء عن بعد. علمنا ايضا ان البناء كان قد نشأ على أنقاض مقبرة سابقة كانت التوسعة في اسطنبول قد سوتها، نقلت بعض القبور بما فيها قبران لوليّين كانا مدفونين في المقبرة، بعض القبور نقلت والبعض الآخر بقي في باطن الأرض. المعروف عن قصر الحلوى أنه وغيره في الحي السكني المتوسع بعد عشرات السنين يقبع فوق مقابر قديمة، هذه المعلومة التي تشكل عند السكان هواجس مختلفة. الرواية هي حكاية سكان قصر الحلوى في مطلع عام ٢٠٠٢م ، سكان الشقق العشرة للبناء، يتابعهم الراوي بشكل عشوائي، يتكلم عن بعضهم الراوي، وهناك شخصية تتكلم بصيغة المتكلم تحت مسمى أنا . لقصر الحلوى مشكلة تظهر وأنها متفاقمة دوما، أنها مشكلة الزبالة التي تتراكم دوما في ركن البناء، الزبالة لا تنتهي والرائحة السيئة المصاحبة ظاهرة دائما، يرافق ذلك انتشار كبير لحشرات مثل القمل والبق الصراصير والذباب وغيرهم ، أصبح ذلك مشكلة يبدو أنها غير ممكنة الحل.
الشقة رقم ١. تسكنها عائلة مكونة من الأب موسى وزوجته مريم وطفلها الصغير محمد الذي بدأ بالذهاب إلى المدرسة، الأب موسى سلّم شأن البيت كاملا لزوجته مريم، الزوجة المتسلطة و المهيمنة، تتابع أمر ابنها الصغير الذي يذهب إلى المدرسة، محمد الصغير لديه مشكلتين، الأولى أن في مقعده في الصف طفل أكبر منه يعتدي عليه دوما، مما دفع محمد للتفكير بالهروب من المدرسة والعودة كل يوم الى البيت بعد انتهاء الدواء، والثانية هو وجود القمل في رأسه وجسمه، مما دفع المعلمة لإرسال أكثر من رسالة للأم لكي تحافظ على نظافة الابن، وهي تنظّفه دوما لكن القمل يعود للظهور عليه مجددا دون فائدة تذكر، وهذا ما جعل محمد مشتت الذهن يكره المدرسة ، ويجعل أمه في حيرة كيف يتم حل مشكلة الزبالة والرائحة والقمل و الصراصير وغيرها من الحشرات التي تنتشر في قصر الحلوى كله وليس في شقة محمد وأمه مريم ووالده موسى.
الشقة رقم ٢. يسكنها الشاب العازب سيدار ومعه كلبه السويسري غابا، الشقة كانت شبه مستودع تحت الأرض لقصر الحلوى، لكن تم استخدامه للتأجير، شقة صغيرة وقليلة التهوية، بالكاد تتسع لسيدار وكلبه غابا، سيدار يعيش حياة فقر مدقع، يمتلك من كل شيء واحدا فقط، يصرف مقتنيات على نفسه وإطعام الكلب و أجرة الشقة. كان قد هاجر منذ زمن بعيد إلى سويسرا، لكن لم يستمر هناك طويلا، لا نعلم لماذا سافر ولا لماذا عاد، عودته كانت بصحبة كلبه غابا الذي أحضره معه من هناك، يربط حياته به، يعيش معه، و متوحدا مع أفكاره التي تدور حول ذاته وكلبه، حضرت إليه فتاة أعجبت به، حاولا ممارسة الحب لكن الكلب احتجّ وخرجت الفتاة، عادت إليه مجددا وطلبت ان تسكن عنده، لكنه طردها، أنه مكتفي بنفسه وكلبه وعالمه الشخصي.
الشقة رقم ٣. يسكنها مصففا الشعر (حلّاقان) توأمين جمال وجلال، والشقة نفسها تستخدم محل للحلاقة النسائية، جمال وجلال أخوين لأب وام، الأب هاجر بعد ولادتهم لاستراليا، والام بقيت مع الاولاد، بعد سنوات عاد الأب إلى اسطنبول اخذ احد الأولاد وهاجر مجددا، كان قد تزوج هناك، جاء ليأخذ أولاده ويترك زوجته، لكن احد الأولاد بقي بالخطأ عند امه، الطفلين كبرا كل في مكانه، الاثنان تعلما الحلاقة، وسرعان ما عاد الأخ الذي سافر إلى استراليا إلى اسطنبول، وفتح مع أخاه محل الحلاقة، أغلب زبائنه من سكان قصر الحلوى نفسه ومن الجوار، الأخوين جلال وجمال مختلفين في كل شيء رغم كونهما توائم، جمال منطلق متحدث رائع لا يعرف الصمت متمكن من كل موضوع، يعرف كيف يجعل جو صالون الحلاقة حيويا دوما، جلال على العكس صموت لا يتكلم إلا عند الحاجة، أحاديث الصالون تنصب على نميمة مستمرة عن قصر الحلوى وسكانه، مشكلة الزبالة و الرائحة التي لا تنتهي، والحشرات التي تعيث في البناء كل الوقت.
الشقة رقم ٤. شقة أبناء الطبع الناري، سمّو كذلك لكونهم على استعداد دائم للعراك والصدام مع الآخرين، الأسرة مكونة من الأخ ضياء موظف البلدية الذي طرد من عمله لكونه يتلقى الرشوة، يعيش كل الوقت يراقب الحي وتراكم الزبالة ، وأخته زيرين معلمة الكيمياء المتقاعدة، التي تهتم بزكريا أخاهم الأصغر الذي ولد وأنفه كبير ومشوّه، حيث زادت مشكلة أنفه مع الزمن حيث يتشاجر مع الاخرين أو يسقط على أنفه بحيث أصبح مشوه الوجه تماما، فكرت زيرين ان تزويجه قد يحل المشكلة، وفعلا زوجته وجاء الحفيد يحمل نفس مشكلة الانف، الأسرة تعيش في هواجسها الخاصة وأمراضها النفسية المزمنة.
الشقة رقم ٥. حاجي حاجي وأسرته. في هذه الشقة يسكن الجد حاجي حاجي، مع ابنه وزوجته وهما في العمل دوما، هو يعيش بصحبة أحفاده الثلاثة ، طفلة عمرها خمس سنوات ونصف وأخوه الأوسط ستة سنوات ونصف والأكبر سبع سنوات ونصف، الجد يحكي لهم كل الوقت الحكايا، بعضها عن الماضي والبعض خرافي والبعض مخيف، البعض يحمل عبرة ويقدم فائدة، كان حفيده الأكبر يناقشه دوما، يتساءل ويختلف مع جدّه، لكنه كان مريضا في بنيته الجسدية بحيث بدأ رأسه يكبر وجميع جسدها يضمر ثم أصبح عاجزا عن الحركة مثل أقرانه، الام تخاف على أولادها من حكايات الجد، تحاول منعه ولا تستطيع، تفكر ان تأخذ اولادها معها للعمل ولا تنجح، يعودون إلى جدهم وحكاياته التي لا تنتهي، يعيشون في دائرة قصر الحلوى المغلقة، الزبالة والرائحة الكريهة والحشرات وانعدام الحل.
الشقة رقم ٦. يسكنها متين وزوجته نادية. متين وزوجته نادية، متين مستغرق في عمله، وزوجته مستغرقة بمتابعة الدراما التلفزيونية، إلى درجة أنها تصبح حياة موازية لها، بل بديلا عن الحياة التي تعيش خارج الشقة سواء في قصر الحلوى أو الجوار، باستثناء الرائحة السيئة والحشرات والزبالة المتراكمة.
الشقة رقم ٧. يسكنها “انا” هكذا نعرفه، ان البرفسور، دكتور الجامعة، المثقف الذي يتكلم بصيغة المتكلم، مما يوحي أنه هو كاتب الرواية، نعرف أنه مدرس في الفلسفة في الجامعة، نعرف عن طفولته أنه الابن الأكبر لأسرة كان والده مدمنا على الخمر، وسرعان ما كبر هو أيضا وأصبح مدمنا على الخمر، نعرف أنه كان متزوجا من “ايشين” وأنهم انفصلوا حديثا، وأنه يعيش بصحبة امرأة أخرى هي “أثيل”، نعرف ان ايشين وأثيل صديقتين اصلا، وانه كان يمارس معهما الجنس أثناء زواجه من ايشين وبعد الانفصال عنها، يقضي معظم وقته في الحانة يشرب الخمر، يفكر دوما بحلّ مشكلة قصر الحلوى، مشكلة الزبالة والرائحة والحشرات، وآخر ما فعله، أنه كتب على الركن مكان رمي الزبالة: لا ترمي الزبالة هنا لأنه يوجد قبر لاحد الاولياء، لعلها تنفع الناس إن صدّقوا، تتوطد علاقته مع سكان قصر الحلوى، أحدهم العشيقة الزرقاء، الفتاة التي تعيش حياتها بشك منفتح جنسيا، لتلبي رغبة جنسية لتاجر الزيت والزيتون الذي يزورها دوما، والتي تتقرّب من الدكتور، وتصبح عشيقة له أيضا، يستعرض د أحوال قصر الحلوى، ويفكر كثيرا لماذا تورط وسكن هنا؟!.
الشقة رقم ٨، تسكنها العشيقة الزرقاء، فتاة سميت هكذا لأنها كانت تستقبل عشيقها تاجر الزيت والزيتون، المتزوج والذي يقضي بعض لياليه عندها ، تجهز له بعض الطعام وتعيش معه علاقة جنس، لها معاناتها النفسية، عندما تتوتر وتتأزم تبدأ بجرح جسدها في مواقع مختلفة، وعندما يعرف بذلك الدكتور، بعد ان توطدت علاقتهم، يحاول أن يفهمها أنها مخطئة في ذلك، اخبرته انها دعت على تاجر الزيت والزيتون بالموت، وبالفعل أصابته سكتة قلبية ومات، حمّلت نفسها المسؤولية وبدأت تشويه جسدها، حاول الدكتور استيعابها واقناعها، بعدم مسؤوليتها، وبدأ معها علاقة جنسية مستمرة.
الشقة رقم ٩. هايجين وسو. انها الام هايجين الموسوعة بالنظافة وابنتها الصغيرة سو، الام التي لا تتوقف عن تنظف بيتها والملابس وكل شيء، لديها خادمة خاصة لأجل ذلك، لا تتوقف عن التنظيف، كلّ ما تستاء منه ترميه للشارع، البعض تتركه والبعض تستعيده، الرائحة والزبالة والحشرات، كلها تزيد من هواجس توترها وغلبة هاجس النظافة عليها، واستمرارها في التنظيف ومواظبتها عليه، ابنتها سو بدأت تنشط وتدخل في عالم قصر الحلوى، تتقرب من الدكتور، ومن جارتها في الشقة العاشرة، العمة الأرملة.
الشقة رقم ١٠. العمة الأرملة، أنها الشقة الأخيرة والعمة الأرملة هي من أقدم سكان قصر الحلوى، حيث كانت وكيلة عن اغراض صاحبة قصر الحلوى، التي سامحتها بها، العمة مصابة بمرض الاحتفاظ بكل شيء، سواء كان لها أو مما يلقيه الاخرين، كانت تتسلل ليلا إلى الزبالة وتحمل اكياسها، وتحضرها لشقتها وتبدأ فرزها، غرفها ممتلئة بكل الاصناف من النفايات وكل شيء، أنه عمل سنين متواصلة، كانت سو الصغيرة قد كشفت هذه الزبالة المتراكمة، التي كانت سبب الرائحة المعيشة في البناء، وسبب الحشرات من كل صنف ونوع، اخيرا سو الدكتور بذلك، ثم وصل الخبر للبلدية، جاءت شاحنات كبيرتان عبأت الزبالة المتراكمة في بيت العمة، ومعهما سيارة خاصة ترش البيوت لقتل الحشرات. العمة اعتكفت في بيتها حتى ماتت وكشف أمر موتها بعد أيام.
تنتهي الرواية عندما تموت العمة ويحاول أهل قصر الحلوى إن يتجاوزوا محنتهم مع الزبالة والرائحة والحشرات… هل يتمكنوا من ذلك ؟.
في تحليل الرواية نقول:
نحن أمام نمط كتابي جديد لأليف شافاق، أنها تتحدى نفسها في رواية بحجم ٥٥٠ صفحة، تدخل عبرها لتلافيف دماغ وحياة كل شخصية تتكلم عنها، وكأنها حياتها الشخصية. غير ذلك أرادت أن تنير كل شخصية بحيث تبرر أن تعيش كل شخصية حياتها كما عاشتها، وكيف أنها ممتلئة بامراضها وعقدها النفسية او ما عاشته من حياتها، أو ما تفعله في المستقبل. صحيح أن كل إنسان ابن ظروف تنشئته وحياته، ولكن لكل إنسان بصمته الحياتية الخاصة، فلا يوجد إنسان يماثل الآخر بأي شكل حتى عند الأخوين التوأم. ان لتاريخ الحدث الروائي أهمية رمزية، فهو في اسطنبول عام ٢٠٠٢م، أنه عام تسلّم حزب العدالة والتنمية التركي السلطة المستمرة للان، أنها تريد أن تقول بعد ما يزيد عن عشر سنوات عن استلام حزب اردوغان الحكم، أين أصبحت اسطنبول وتركيا ؟، أنها دولة تضع نفسها في مصاف الدول المتقدمة، دولة خدمات وسياحة ورفاه، والناس فيها يتحركون بأمل بمستقبل أفضل.
إليف شافاق تؤكد مجددا أنها متبحّرة في كل مجالات العلوم الإنسانية والمجتمعية والتاريخ، وتجعل كل معارفها الموضوعية مواد تجعل رواياتها المضبوطة بحرفية عالية في المقدمة عالميا وفي تركيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى