كان عقداً عاصفاً هذا الذي انقضى منذ أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه أمام مقر بلدية سيدي بوزيد، لتنطلق شرارة ثورات وانتفاضات امتدت من الجزائر إلى اليمن، وعلى موجتين كبيرتين. المطالبة بالكرامة والاحتجاج على استباحتها اللذان تضمنهما احتجاج بائع الخضار التونسي الشاب كانا عنواني مظاهرات حاشدة كشفت، بحشودها المليونية وبنهاياتها المأساوية، الحدود التي يمكن أن يصل إليها تطّلب الديمقراطية والعدالة في العالم العربي وحقائق قاسية لم يكن من السهل الالتفاف حولها. بل إن تجاهل الحقائق في العديد من الحالات أدى إلى انهيار كل محاولات التغيير العربية أو أرجأها، في أحسن الأحوال، إلى مستقبل غير منظور.
الحقيقة الأولى هي أن «الشارع العربي» الذي قيل الكثير في شلله وموته، تحرك. لكن ليس للقضايا التي كانت تحمل الجماهير على النزول إلى الشارع. لنتذكر أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 2000 واحتلال العراق بعد ثلاثة أعوام كانا المرتين الأخيرتين اللتين شهدتا مظاهرات في العواصم العربية تتعلق بشأن عربي عام (إذا استثنينا المظاهرات التي سارت في بيروت ودمشق سنة 2006 تنديداً بالرسوم المسيئة للرسول). بعد ذلك، وعلى الرغم من حروب إسرائيلية على لبنان وغزة والاقتتال الأهلي – الطائفي في العراق، لم يُسجَّل تحرك شعبي يُذكر حتى بداية الثورة التونسية.
تقترح هذه الحقيقة أن الحساسيات العربية تبدلت وحلت مكان تلك التي سادت بين الأربعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة والتي حددها وعي قومي فطريّ حيناً ومصطنَع في أكثر الأحيان، منح الأولوية المطلقة للقضية الفلسطينية والصراع مع خارج استعماري ومتآمر، حساسيات مشتركة جديدة تعترض على الاستبداد وغياب العدالة وانسداد آفاق الارتقاء الاجتماعي أمام الشباب العربي. وأن التضامن في وجه سلطة غاشمة محلية يسبق التفاعل مع قضية خارجية خصوصاً بعدما تحولت القضية الفلسطينية إلى مطية لمعظم أنظمة المنطقة، العربية وغير العربية، لتبرير سلوكها وتحقيق المكتسبات لنفسها ولو على أشلاء الشعب الفلسطيني.
الحقيقة الثانية تتلخص في أن المعارضين، سواء الذين أسقطوا حكامهم أو من سعى منهم إلى هذا الهدف، كانوا يعرفون ماذا يرفضون لكنهم لم يتفقوا على ما يريدون. فهم يرفضون المهانة والفوات والتخلف والعنف الأعمى واقتصاد الزبائنية والفساد، التي كانت تمارسها السلطات… لكنهم كانوا يعجزون تماماً عن الإجابة الواضحة عن أسئلة تطرحها قوى أكثر حنكة وخبرة، مثل أحزاب الإسلام السياسي، في شأن المفاضلة بين الدين والعلمانية كخيار مؤسِّس للدولة، وشكل العلاقة مع الغرب، والقيم الاجتماعية المقبولة أو المرفوضة، وحقوق المرأة، وحرية التعبير والاعتقاد. الارتباك الشديد الذي قابل به الثائرون هذه المعضلات لا يدل على نقص في نضجهم الفكري بل على إدراكهم أن موازين القوى الاجتماعية ليست في صالحهم، وأن خصومهم الذين يدّعون شراكتهم في الثورات، قادرون على عزلهم وقلب الطاولة عليهم باستخدام سلاح الدين والقيم المحافظة، وهو ما حصل في سوريا ومصر وكاد ينجح في تونس.
يمكن التوسع هنا وإضافة لبنان الذي التحق بالموجة الثانية من الثورات العربية في 2019 إلى الحالات التي عجز فيها المنتفضون عن مواجهة البنى السياسية التقليدية، حيث وقف جمهور الطوائف ضد تغيير النظام وإسقاطه، مفضّلاً بقاء الزعامات التقليدية الفاسدة مع كل ما تجلبه من كوارث، على خوض تجربة تغييرية مع شخصيات وهيئات غير مجرَّبة وتفتقر إلى المصداقية وإلى القوة المادية والمعنوية الضرورية للتغيير.
ترتبط الحقيقة الثالثة بسابقتها، فالإسلام السياسي الذي وثب على الثورات العربية ولم يكن في أي مكان من محركيها أو الدافعين إليها، أثبت أمرين: الأول هو قدرته التعبوية والإعلامية وفاعليته كجهاز تنظيمي جاهز للعمل في اللحظة المناسبة وهو بالضبط ما كانت تفتقر إليه الجموع الثائرة التي تتحرك عفوياً ومن دون خطة أو تنظيم اللهم إلا بالحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. الأمر الآخر هو أن هذه الفاعلية المبنية على هيكل «جهازي» تنظيمي منضبط هي الحد الأقصى الذي تستطيع حركات الإسلام السياسي إنتاجه. فهي، وبصيغتيها الجهادية المسلحة والدعوية (الإخوانية) غير قادرة على إدارة مجتمعات مركبّة وذات نزعات متباينة من التحرر إلى التزمّت. وحدة التنظيم والهدف التي أعلى الإسلام السياسي من شأنها اصطدمت رأسياً بمجتمعات تطالب بالتعدد والاختلاف على ما تبين من الرفض الكاسح لأنظمة الاستبداد.
الحقيقة الرابعة هي أن المؤسسة العسكرية ما زالت ترى في نفسها ضمانة لاستتباب السلم الأهلي وعدم الانزلاق إلى الفوضى. وباستثناء الحالة التونسية التي حيّد فيها الجيش نفسه تماماً عن السياسة واكتفى بمكافحة الخلايا الإرهابية، أدت الجيوش أدواراً عدة في الثورات تتراوح بين التأييد الكامل للنظام على نحو ما جرى في سوريا (مع الإشارة إلى انشقاق آلاف الضباط والجنود) أو الانقسام والتحاق بعضها بالثورة كما في الحالة الليبية، أو التقدم لأداء دور المؤسسة المرجعية المكلفة الحفاظ على وحدة البلاد على غرار ما حصل في مصر. وفي الحالات كلها، كانت الجيوش تعكس تراثاً من العلاقة المعقدة مع المجتمع والدولة.
قد يصح وصف الحقيقة الخامسة بمشكلة «اللغة»، بمعنى الافتراق الشاسع بين «خطاب» وممارسة السلطات وبين الكيفية التي يعبِّر المواطنون وخصوصاً الشباب منهم عن نفسه وآماله وهمومه. اللغة ساحة صراع مستمر ولعلها من الساحات القليلة التي يمكن القول إن الثورات العربية لم تختفِ منها اختفاءً نهائياً. وسائل الإعلام البديلة التي تظهر على شبكة الإنترنت تحل جزئياً مكان الفضائيات والصحف الرسمية أو شبه الرسمية. وتحمل الوسائل تلك «حقائق» مغايرة لما تريد السلطة تعميمه أو فرضه كحقيقة وحيدة. ولا تقتصر المعركة هنا على التنافس في إبراز الوقائع أو نفيها، بل تصل إلى طريقة الكلام والأساليب والقضايا والقيم التي ينطلق كل جانب لخوض معاركه حولها. ورغم الحصار والإجراءات القمعية الدائمة لدى بعض الأنظمة، يمكن الجزم بأن الجولة المقبلة من الثورات العربية، أو لِنقُل – تواضعاً – محاولات التغيير، يجري التحضير لها هنا.
المصدر: الشرق الأوسط