اللبنانية نورا عيتاني: روائية مشروعها تأصيل (الأدب الإسلامي)

محمد خليفة

القاعدة أن المبدع يحقق حضوره بشكل تدريجي لا فجائي، على إيقاع انتاجه واسهاماته الابداعية عبر الزمن. ويلعب النقاد والاعلاميون دورا أساسيا في رصد ومتابعة تطوره. أما العكس فهو نادر واستثنائي، ولكن لكل قاعدة استثناؤها.

الكاتبة نورا عبد الغني عيتاني (لبنانية) أحد استثناءات هذه القاعدة الأزلية. روائية، وشاعرة، وكاتبة مكتملة، في ذروة نضجها، لغة وأسلوبا وفكرا ومحتوى. يخيل لي أنها تكونت وتطورت ونضجت واكتملت، بعيدا عن أعين القراء، وأضواء الإعلام، ومباضع النقاد، وأخذتنا على حين غرة بروايتها العذبة (طفلة على ناصية حلم) الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون.

 تدور أحداث الرواية في زمن الحرب الأهلية اللبنانية (بيئة وظروف مشابهة للبيئة السائدة في سورية بعد ثورة 2011) وبطلتها رهف فتاة شابة في عقدها الثالث، عرفت قسوة اليتم مرتين، وكابدت مرارة فقدان الأب ثم الأم، أعز الناس على كل طفل أو طفلة، فسيطر على قلبها الحزن الثقيل القاتم.

كانت في عامها السادس بداية الحرب حين قتل أبوها بطريقة وحشية أمام عينيها، حين اقتحم مسلحون بيتهم، وانهالوا عليه ضربا بالهراوات وقضبان الحديد، فهشموا رأسه. هذه التجربة الصادمة جعلتها مسكونة بخوف وذعر دائمين، يحرمانها من النوم والإحساس بالأمن والطمأنينة.

وبعد بضع سنوات وقبل بلوغها سن الرشد، ماتت أم رهف أيضا وتركتها وحيدة في ظروف بالغة الشدة والقسوة، وخلفت جرحا أكثر عمقا في نفسها لما لعلاقة الطفلة بأمها من خصوصية. تخبرنا رهف أن الموت زائر دائم في تاريخ الأسرة، تتكرر زياراته لهم بمعدلات قياسية!

في ريعان صباها عرفت تجربة حب قصيرة عابرة، تكللت بالزواج من شاب أحبها أكثر مما أحبته، ولكن هذه التجربة التي كان يمكن أن تساعدها على تجاوز صدمات الموت المتلاحقة، لم تكتمل بل انقلبت ضربة قاضية، فقد مات الزوج المحب فجأة بدون سابق إنذار خلال الشهر الأول من زواجهما، وخلف صدمة ثالثة قاسية.

رحل الزوج زارعا في رحمها جنينا

قررت الفتاة العاثرة الحظ أن تعالج محنتها وعذاباتها الشخصية بحسب القاعدة الشهيرة (داوها بالتي كانت هي الداء!) تطوعت للعمل كمرشدة ومساعدة في مخيم للنازحين واللاجئين الفارين من جحيم القتال في الحرب.

عملت مع / وبين الأطفال الذين تيتموا وتشردوا وفقدوا طفولتهم وأحلامهم – وحالها كحالهم – بسبب خسارتهم آباءهم وأمهاتهم. تستمع رهف لتجاربهم مع الموت والقتل واليتم والفقر والخوف، تحرص على تسجيلها، ووصف مشاعرهم، وخصوصية كل حالة، كما تكتب تقارير يومية عن مشاهداتها وانطباعاتها ومشاعرها السوداوية. في هذا السياق تتعرف الى صبي مميز بين أترابه وأقرانه، يبدو أكبر من عمره، وأنضج من أقرانه، يدعى أمجد، ولذلك حدث نوع من التقارب والتفاهم بينهما، أوجد بينهما حوارا مستمرا وحارا، يفضفض لها وتفضفض له، وأصبح الوحيد الذي تبوح له بمكنوناتها وأسرارها، وتتعامل معه كما لو أنه رجل بالغ ناضج.

تتوالى الأيام على هذا النحو بلا جديد فيها، سوى العذابات والمعاناة، يتقاسمها الصغار والكبار، في مخيم يفتقر لكثير من ضروريات الحياة، الى أن يفد متطوع جديد. شاب يمتاز بالتدين والخلق واللطف، يخصص مكانا خاصا لأداء الصلوات اليومية الخمس جماعة، ويرفع الأذان ويؤم المصلين، يدعى سعد. أعجبت رهف بإنجازه، واستعذبت صوته الجميل، وهو يرفع الأذان، ويرتل القرآن في الصلاة، وجذبها خلقه وحياؤه.

 أصبح أمجد قناة اتصال بين رهف وسعد، ينقل لها أخباره وأقواله، وينقل له أشياء عنها. وتبين لها أنه مر بتجربة مشابهة لتجربتها مع زوجها الراحل، إذ توفيت زوجته أثناء الولادة. وكما يقال (إن المصائب تجمعن المصابينا) أحدثت التجربة المريرة بينهما تقاربا وتجاذبا عن بعد، كما قربت حالة التدين الإعجاب أيضا. ثم حدث حادث غير متوقع بينهما قرب المسافة بينهما. أصيبت رهف بنزيف مفاجئ احتاجت للإسعاف ولم يكن سوى سعد لينقلها الى المستشفى بسيارته ويساعدها ويسدد النفقات عنها. وتبين أن جنينها قد مات منذ فترة دون أن تدري، ولا بد من إسقاطه لكي لا يصيبها بالتسمم. وهذا ما حدث خلال يومين في المستشفى حيث وقف سعد الى جانبها من البداية للنهاية. وتابع الصبي العبقري أمجد والمرأة الطيبة حنان بقية السيناريو، بين رهف وسعد إلى أن وافق كل منهما على الارتباط بالآخر!

الشائع في الأدب الروائي العربي والعالمي على حد سواء اختراق حواجز الحياء والتسلل الى عالم العلاقات الجنسية والحميمية بين شخوص الرواية، والتوغل فيه بدون حدود ولا حجب، حتى غدا هذا العنصر من أي رواية ركنا اساسيا لا بد منه، ويصل في بعض الأحيان درجة الاسفاف المتعمد، لأغراض لا علاقة لها بالفن والفكر والرسالة الاخلاقية للعمل الروائي، بل تنحدر الى أغراض الإثارة الرخيصة، والجذب التجاري، وتحدي الثوابت الاجتماعية والمحرمات. أما في رواية نورا عيتاني نجد العكس تماما، تتجنب الكاتبة الجنس والابتذال في العلاقات، وتختار الحياء والعفة والحب العذري العفيف، الى درجة المبالغة والتطرف. إذ لا يمنع التدين من تبادل البوح المباشر والمصارحة بين الجنسين ضمن حدود معينة، فلماذا نتشدد ونحرم ما أحل الله، ويقبله المجتمع المعاصر …؟!

 هذا ” الاتجاه المعاكس ” الذي سلكته عيتاني يؤهل روايتها الأولى لتدرج في عداد (الأدب الاسلامي) كتيار جمالي، وجنس أدبي، ظهر منذ خمسينيات القرن الماضي، وبرز نقاد وأدباء ومفكرون يتبنونه ويؤصلونه ويبلورون مفاهيمه في الرواية والقصة والمسرح والشعر، أمثال علي أحمد باكثير (مصري / يمني)، ثم علي الطنطاوي (سوري)، والشاعر هاشم الرفاعي (مصري)، ومحمد الحسناوي (سوري)، ومن النقاد المفكرين أمثال ابو الحسن الندوي (هندي)، والأخوين محمد وسيد قطب (مصر)، ود. مأمون جرار (الأردن)، ونجيب الكيلاني (مصر)، وعماد الدين خليل (العراق)، وظهرت رابطة للأدب الإسلامي مقرها في عمان / الأردن ، وانعقدت في الهند ( الندوة العالمية للأدب الاسلامي ) ثم تطور مفهومه الى مصاف الحديث عن ( علم جمال اسلامي ) و(نظرية معرفة اسلامية ).

وعلى أي حال، ومهما اختلفت الآراء حول هذه القضايا والمسائل الفكرية والنقدية، فإننا لن نختلف أبدا في أننا أمام مبدعة تجيد الإمساك بناصية الفن الروائي والشعري واللغوي، إذ تتميز السيدة عيتاني بمستوى لغوي راق وعال في وقت انحدر مستوى الكتاب الروائيين على صعيد اللغة. ولا شك أن كل الأجناس الأدبية والفنية تبدأ باللغة. فهذه هي قماشة كل الفنون الكتابية، وجودة الثوب من جودة القماشة أولا وأصلا. والقماشة التي تصمم بها نورا أعمالها الأدبية قماشة رقيقة جميلة عذبة، لا تعرف الرتابة ولا التكرار ولا الهذر ولا الحشو.

 إن نورا عبد الغني عيتاني كاتبة تنسج بقماشة الفن اللغوي شعرها، وتبني بمعدن اللغة عمارتها الروائية، بدون تعقيد ولا نمطية، أو تسطيح، وتبدو اللغة في كل أعمالها ذات رائحة خاصة، وأسلوب مميز، لا يشبه أساليب سواها من الشعراء والروائيين.

بالنسبة لقارئ ومتذوق كانت قراءة (طفلة على ناصية حلم) رواية نورا عبد الغني عيتاني الأولى اكتشافا ثمينا. وكذلك قراءة مجموعتها الشعرية الأولى (عندما نطق الوشاح) فكل من العملين يعزز القناعة بأننا أمام مبدعة ناضجة وكاتبة مكتملة أهم ما يميز خصائصها: اللغة الشعرية العذبة، والاتجاه الفني، والمحتوى الأخلاقي الرسالي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى