لا نبالغ إذا قلنا إن قيادي القاعدة، وتنظيم الدولة السابق، أبا محمد الجولاني مكروه من السوريين، مواطنين وثوارا، الى درجة تجعله منافسا قويا لبشار الأسد، خصوصا في الأسابيع والشهور الأخيرة. إذ بينما كانت مدن وقرى ادلب الجنوبية تتساقط بأيدي قوات النظام والروس والايرانيين، كانت قوات الجولاني تتفرج ولا تفعل شيئا، بل تساعد النظام على استباحتها بأقل كلفة، مما جعل مئات القادة في الفصائل الوطنية توجه للجولاني علانية أبذأ الاتهامات والشتائم. ثم اتضح دوره في اسقاط عدد من القرى والمدن في غربي حلب، كعندان وحريتان وكفر حمرة والليرمون التي شكلت قلاعا منيعة للثوار على مدى تسع سنوات، وأعجزت النظام وحلفاءه، بمن فيهم الروس، على اقتحامها أو كسر شوكتها رغم آلاف الغارات. ولكنها في أواخر ك 2 الماضي سُلمت تسليما لعصابات الاسد الهزيلة. وقال أحد القادة في المنطقة (إن الجولاني سحب منهم المدفعية الثقيلة والدبابات، وأمرهم بالانسحاب خلال 24 ساعة فقط، ليدخلها النظام بلا قتال)!
كل الشهود والشواهد والقرائن تؤكد أن هيئة تحرير الشام والجولاني شركاء فعليون للأسد والروس في جرائمهم في شمال سورية، وحلفاء لتركيا في سياستها المتخبطة غير الثابتة وغير المفهومة تجاه ادلب ومحيطها. وقد خاضت تركيا حروبا مع الروس طوال السنوات الثلاث الماضية بسبب دفاعها عن (الهيئة) على الرغم من أنها التزمت أمام المجتمع الدولي بتصفيتها، أو حلها قبل نهاية 2017، بعد أن صنفتها الأمم المتحدة تنظيما إرهابيا، ثم جرى تمديد الاتفاق في سبتمبر 2018 بين بوتين واردوغان. ولكن الخلاف استمر حتى اليوم، يتفجر كلما أراد أحدهما الضغط على الآخر لسبب أو لآخر. وفي الأسابيع الأخيرة استعملت روسيا هذا الأمر لتبرير دعمها لهجوم الاسد على ادلب وتهجير السكان، متهمة تركيا بحماية الفصائل الإرهابية، وعدم وفائها باتفاقات استانا وسوتشي، وردت تركيا بأنها (أوفت بعهودها) دون أن توضح كيف، وجددت رفضها الحسم العسكري للمسائل المختلف عليها.
معظم هذه المعلومات والتطورات والمواقف معروفة ومنشورة، لكن الجديد الذي ظهر أخيرا ويزيل اللبس الذي يكتنف بعض التطورات السابقة والمواقف على المستوى المحلي والدولي، والذي يوضح جانيا من خلفيات المواقف تجاه (هيئة تحرير الشام)، من أطراف دولية كبرى.
ففي تزامن يشي بإيحاءات كثيرة أجرت (مجموعة الأزمات الدولية) التي تقدم تقاريرها الى حكومات دول الغرب الكبرى بشأن أزمات العالم الساخنة، أجرت حوارا مطولا ونشرت فقرات منه على موقعها يوم 20 يناير الماضي مع من يفترض أنه (ارهابي دولي) ضالع في جرائم حرب، وعمليات قتل وخطف وتعذيب موصوفة في سورية والعالم، وكان شريكا لأبي بكر البغدادي في (تنظيم الدولة).
وأغرب ما في هذا الحوار أن طرفيه يتواطآن معا وكل من موقعه ولمصلحته، من أجل رسم صورة جديدة للجولاني، وتقديمه للرأي العام الدولي كشخصية جهادية، يناضل ضد نظام الاسد الفاشي فقط، وانه لا يهدد الغرب، ويرفض العمليات الخارجية، ويقبل تعدد الآراء في المناطق التي يحكمها، وأنه لن يواصل القتال بعد أن يسقط الأسد، ويقبل عمل المنظمات الانسانية في أماكن سيطرته عليها. وينتقد ذاته عن جرائم قتل وتصفية الفصائل الاسلامية السورية التي يختلف معها في الرأي ويصفها بأخطاء، ويزعم أنه تخلى عن النهج، وأفصح عن رغبته في الحوار مع المعارضة السورية، والتعاون معها في ادارة شؤون ادلب.
هذا الحوار لا يجب أن ُيقرأ كحدث اعامي، بل كحدث سياسي مهم، كالحديث الذي أدلى به زهران علوش عام 2015 لوسائل اعلام غربية، وقال إنه يقبل بحكم الشعب، واجراء انتخابات عامة في سورية، بعد سقوط الأسد، وتناقلت وسائل الاعلام الغربية التصريحات كما لو أنها تطور دولي مثير!
الأرجح أن حديث الجولاني اليوم يعكس نتائج جهود تركيا غير المعلنة لتغيير افكار وسلوك (الهيئة) بدل تصفيتها بالقوة. كما تعكس ترحيبا وتشجيعا غربيا للتحول، بدليل نشر (المجموعة) للحوار الدعائي معه على موقعها، وهي التي تعمل كهيئة مستشارين وخبراء، لحكومات الدول الغربية، وتقترح عليها حلولا للأزمات الدولية المعقدة.
ولكن عينا أن نلاحظ أن نشر الحوار مع الجولاني جرى في بداية العام ونشر يوم 20 يناير في نفس الوقت الذي كانت (هيئة تحرير الشام) تسلم الأسد وحلفاءه أهم قلاع الثورة في ريف ادلب وحلب بدون قتال، بل بتآمر مفضوح. فماذا يعني ذلك …؟!
المصدر: الشراع