ليس أدل على سطوة الإعلام على العقول ومقدرته الفذة في توجيه اهتمامات الناس وفرض اتجاهات الرأي التي يريدها على المتابعين والمحللين والناشطين والمهتمين بالشؤون الانسانية العامة؛ من القضية المثارة مؤخرا في فرنسا حول الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لنبي الإسلام وردود الأفعال اللفظية والفعلية وتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون.
فقد لعب الإعلام دور القائد والموجه للأفعال والردود معا واستثمارها وفق منهج مراد يخدم أهدافًا سياسية متعددة لتلك القوى والأطراف المتداخلة في القضية وإثارتها والتعاطي الانفعالي معها.
١ – البدء كان بإشغال الرأي العام برسوم صحفية كاريكاتورية مسيئة وعرضها بشكل مأساوي تحريضي فبدت وكأنها تهدد وجود الإسلام وحياة المسلمين. في حين أنها ليست أكثر من كلام غوغائي عابر تافه يعبر عن رأي شخصي لا تزيد ولا تنقص في ميدان الحقيقة.
والواقع والأخطر أنها تغفل التهديدات الحقيقية على وجود المسلمين وحياتهم ليس في بلاد الغرب فقط وإنما في بلادهم الأصلية ذاتها ولا سيما في بلاد العرب مهد الإسلام ووعاء فهمه وتفصيله.
إن استثارة مشاعر المسلمين واستنزاف غضبهم للرد على سخافات تافهة عابرة إنما يخفي وراءه جرهم بعيدًا عن مكامن الخطر الحقيقي عليهم وعلى دينهم كوعاء حضاري نهضوي تحرري إنساني شامل، ثم إلى تصريف ردود أفعالهم وما فيها من طاقة كامنة في عملية ردح وقدح يتبادلون فيها الشتائم مع آخرين، ليس من شأنها إلا إبقاؤهم تحت سطوة ردات الفعل الانفعالية الغاضبة دونما أية مقدرة على الفعل في ميادين الأخطار الحقيقية والتحديات الوجودية.
والمؤسف أن كثيرًا من المسلمين ينساقون في هذا النسق الشعائري دون إدراك أو وعي متعمق لخلفيات الأمور ومآلاتها.
٢ – فيما بدا أنه استثمار موجه لردات الفعل على الرسوم الكاريكاتورية، جرى تركيز إعلامي ضخم على جريمة قتل المدرس الفرنسي وقطع رأسه إلى أن صارت هذه الجريمة البشعة النكراء المستنكرة المرفوضة شكلاً ومضمونًا، قضية عالمية إنسانية عامة تتفوق في الاهتمام الإعلامي العالمي على آلاف الجرائم التي تفوقها فظاعة وشناعة في بلاد كثيرة ليس أقلها ما يجري في العراق وسورية وفلسطين واليمن والصومال وغيرها.
وعلى الفور تم ربط ذاك التصرف الإجرامي الفردي بالإستراتيجية العالمية لمكافحة ما يسمى الإرهاب وتقديم المسلمين كرعاة إرهاب والإسلام كدين يحض على الإرهاب والتراث الإسلامي الذي لا يعترف بالآخر ويزخر بجرائم القتل والتقتيل والتقاتل. وهنا تتضح أهداف إثارة القضية من الأساس بالرسوم ثم ردات الفعل عليها.
٣ – من بين المليار ونصف المليار مسلم في العالم، لم يؤيد جريمة قتل المدرس الفرنسي أحد معروف واضح. على وسائل التواصل الاجتماعي ظهرت بضعة أصوات غير معروفة ولا شخصيات أصحابها تحاول إيجاد تبرير تخفيفي للجريمة. فيما أن أعدادًا ضخمة من المسلمين استنكروها بشدة ورفضوا نسبتها إلى أية قيمة إسلامية.
وحدها بعض أصوات النشاز المجهولة النسب جرى التركيز الهائل عليها وتعميمها لتبدو وكأنها تعبر عن الإسلام والمسلمين كافة فيما الواقع عكس ذلك بتاتًا.
وذلك بهدف تدعيم إستراتيجية محاربة الإرهاب التي تتخذ ستارًا لحرب وجودية شاملة على العرب والإسلام يشنها أطراف النظام العالمي المجرم الفاسد.
٤ – وقع كثير من النخب العربية في مطب التحريض والانفعال المتبادل فراحوا يهاجمون العقل الإسلامي والتراث الإسلامي ويدافعون عن عَلمانية الغرب وديمقراطيته دونما أية موضوعية رصينة تبين مساوئ هذا وحسنات ذاك.
فلا الديمقراطية العَلمانية الغربية منزهة عن الأعمال الوحشية الإجرامية بحق الآخر ولا العقل المسلم بريء من قيم الحق والعدل والخير والاحترام.
فيما بدا المشهد وكأنه صراع بين لونين لا ثالث لهما: إما أبيض وإما أسود. إما أن تكون مع العَلمانية الغربية أو أنك تكفيري إرهابي تعادي الحرية والرأي الآخر.
والحقيقة غير ذلك تمامًا بعيدًا عن هذه الثنائية المفروضة.
٥ – وحدها الأحزاب ” الدينية ” شجعت وتشجع انخراط الناس في ردات الفعل والسباب المتبادل، تبغي به شد تلك العصبية التي تجعلها في محور الأحداث وتدفع الناس للاستجابة لتحريضها والالتفاف حولها باعتبارها حامية حمى الدين والمدافعة عن الله ودينه ونبيه. ينطبق هذا على الوسط المسلم والأوساط الغربية وإن تكن ردات الفعل فيها تتمظهر بدعوات العنصرية ومحاربة الهجرة والمهاجرين. مما يجعلها جميعًا وكأنها مستفيدة من ذلك السجال العقيم ومشاركة في إطلاقه وتدعيم محوريته.
٦ – تبدو عملية تسييس الدين واستغلال المشاعر الإيمانية الدينية لخدمة أهداف وإستراتيجيات سياسية معينة، واضحة جلية في كل ما أثير في هذه القضية.
بداية من التصريحات غير المدروسة وغير العاقلة للرئيس الفرنسي تعليقًا على الرسوم، مرورًا بالتجييش المعاكس الذي توظفه تركيا وأحزاب ” إسلامية ” تدعيمًا لتوجهاتها السياسية الإستراتيجية. فالرئيس الفرنسي يحتاج إلى مشاعر وطنية مستثارة أو عصبية مصنوعة لرفع مستوى شعبيته المتدنية في الأوساط الفرنسية. وقد يكون محتاجًا لتقديم شهادة ثقة وحسن سلوك لدى اللوبي الصهيوني الذي يحيطه ويدعمه؛ على مقربة من انتخابات داخلية قريبة.
فيما تركيا المسلمة تحتاج إلى تلك المشاعر الدينية المتأججة لتكون لها عونًا في توسعها السياسي وتدخلاتها الخارجية فيما يبدو استعدادًا لدور إمبراطوري يتعدى حدودها الجغرافية متطلعًا ومتماهيًا مع تصورات عثمانية مستقبلية لدور إمبراطوري غابر. وهنا أيضًا يلعب الإعلام العالمي دور محرك الأحداث وموجهها.
٧ – فيما يبدو أنه أزمة حياتية واقتصادية وأخلاقية يعاني منها النظام العالمي المعولم الفاسد، تتضح خلفيات كثيرة لمعظم تلك الأحداث مع دور بارز لأطراف ذلك النظام العالمي في إثارتها ثم في استغلالها ببراعة لخدمة أهداف أساسية له.
يتضح من الأوضاع الداخلية المضطربة لتلك الأطراف أنها تحتاج إلى عصبيات من نوع جديد تشد بها ولاء شعوبها نحو دفاع عن هويتها الوطنية ومصالحها القومية، خلف قيادتها هي وفي ظل فهمها هي وانخراطًا فيما ترسمه من إستراتيجيات.
فليس الالتفاف الشعبي حولها في مستويات مرضية. وأخبار الفساد فيها تنتشر وتتعمم. أما تماسكها الداخلي فأقل فعالية. وليس أكثر من المشاعر الدينية زخمًا لشد الأواصر وتقوية العزائم لمواجهة خطر قادم يهدد الوجود والمصير والقيم الديمقراطية، كما يتصورون ويصورون.
٨ – في خضم استغراق المجتمعات الإنسانية في أزمات معيشية حياتية متفاقمة سببها الأساسي هيمنة النظام الرأسمالي العالمي على سياسة واقتصاد وتوجهات معظم بلاد العالم وفساد وخضوع سلطاتها المحلية لاحتياجات ذلك النظام الذي يحميها ويشغلها، تبدو الفوارق بين الناس مرعبة مدمرة. إن غالبية من الناس تعيش في حياة متدنية وكثير منهم يعيش فقرًا مدقعًا فيما أقلية نخبوية محدودة جدًا تسيطر على معظم الموارد والإمكانيات البشرية وتستولي عليها بالقوة والتشبيح والتسلط وحماية الفساد المحلي وإجادة الاستفادة منه ومن سطوته؛ حتى إن القسم الأعظم من أبناء المجتمعات المتقدمة لا تنال من ثروة بلادها إلا القدر اليسير البسيط فيما النخب المالية الصناعية المركزية تستحوذ على القسم الأكبر بفارق هائل يجعلها تعيش عيشة فارهة وتوظف قوة عمل الآخرين لدفع مكينة مصالحها هي على التقدم بانتظام مطرد.
هذا الواقع الاجتماعي الإنساني المتفاوت المضطرب دفع تلك النخب الرأسمالية المحدودة إلى التخفي وراء العصبيات الدينية والعرقية والعنصرية فراحت تشجعها وتقويها وتستغل عواطفها الدينية لصرف اهتمامات الناس عن وقائع حياتهم الفعلية وعن الأخطار على مستقبل البشرية الناجمة عن تكدس معظم الثروة البشرية في أيدي بضعة آلاف من البشر لا هم لهم سوى المزيد من الربح دونما أية نوازع أخلاقية أو إنسانية ولو مات نصف البشرية أو أكثر أو أقل.
هذه النخب المالية الرأسمالية ابتكرت صناعة العصبيات الدينية والطائفية والعرقية والعنصرية وتبرع في تجييشها واستخدامها لإخفاء حقائق وأرقام الوقائع الاقتصادية والمعيشية للبشر وما فيها من سرقة ونصب وغش واحتيال وتشبيح وفجور وفساد واستغلال. وليس أكثر من التعصب الديني حجابًا يعيق رؤية كل ذلك التهافت القاتل في الواقع العالمي الراهن. لذا يبرعون في تشجيع ورعاية كل أنواع التحريض الديني والمشاعر الدينية التي تخفي حقائق الواقع وتحديات الحياة.
٩ – يعاني واقع المسلمين اليوم من فساد كبير وتخلف أكبر وتشرذم أخطر فيما توجه مقدراتهم نخب دينية عقيمة وسلطات تنفيذية مرتهنة فضلاً عن أخطار وجودية وعدوان مستمر من جهات عديدة.. فلا مصلحة لأي من هذه الأطراف المحلية والخارجية في تحررهم ولا في بيان سلوكياتهم الحضارية وقيم الإسلام الإنسانية الراقية. فيتهامسون جميعًا لتدعيم أية قوة تكفيرية ذات محتوى إجرامي إن لم نقل يتداعون لتشكيلها وإعطائها مقومات العمل وإمكانيات البقاء والاستمرار ونسبة فعلها للإسلام والعقل المسلم والتراث الإسلامي. فينامون في مراقدهم مطمئنين إلى مستقبل سيطرتهم وتسلطهم.
١٠ – وإذا كان من حق كل مؤمن مقاطعة أية جهة تعتدي على مشاعره الدينية والدفاع عن رموزه الدينية بالمنطق والعلم والحوار؛ فليس من حق أحد قتل إنسان آخر بحجة انتقاده أو تهجمه على نبي أو رسول أو دين.
إن مقاطعة المنتجات الفرنسية تصبح جيدة ومقبولة فيما إذا تحولت إلى عمل إرادي واع يدافع عن الاسلام بمنطق وعقل ورقي ويدافع عن وجود المسلمين في أوطانهم ضد كل عدوان محلي أو خارجي عليهم، بالوحدة والتنظيم والرؤية المستقبلية الواضحة لمجمل الأخطار والتحديات عليهم وامتلاك أسباب القوة اللازمة لرد كل عدوان على أوطانهم. وإلا فلن تكون أكثر من ردة فعل آنية كالفقاعة.
المصدر: كل العرب