هل كان جميل مردم بك عميلا؟

حمزة المصطفى

 الجزء الأول

نشرت جريدة هآرتس الإسرائيلية مقالا للباحث مئير زمير، ترجمه موقع تلفزيون سوريا، زعم فيه أن رئيس الوزراء السوري السابق والقيادي في الكتلة الوطنية جميل مردم بك كان عميلا مزدوجا لكل من فرنسا وبريطانيا في آن معاً، وأنه في إطار اتصالاته مع الوكالة اليهودية قدم معلومات إلى بن غوريون كان لها أثرها على الترتيبات الصهيونية لإعلان دولة إسرائيل عام 1948.

وفي إطار ردود الفعل السورية والعربية على المقال الذي قدمته الصحيفة بوصفه “كشف” استند فيها كاتبه على وثائق الأرشيف الإسرائيلي برزت ثلاث اتجاهات. أولها ويمثل شريحة واسعة من السوريين الذين ينظرون برومانسية كبيرة تصل حد الأسطورة لنضالات الكتلة الوطنية في تحقيق الاستقلال وبناء الدولة السورية وهؤلاء يشككون بكل ما ورد في المقال ويعدونه جزءا من تشويه فترة ناصعة في تاريخ سوريا الحديث.

أما الاتجاه الثاني فيجد ضالته لدى بعض الشرائح المؤيدة للنظام التي تبخس أي فترة في التاريخ السوري قبل حكم البعث وتعتبر شخوصها مجرد عملاء نجح البعث في تصفيتهم وتخليص السوريين منهم. في حين يظهر اتجاه ثالث جمهوره عربي لا سيما من الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل مؤخرا، حيث وُظف مقال هآرتس لتبرير الخطوة مدعين أن العلاقات في العلن وبشكل ندي ستكون أفضل من العلاقات السرية التي يكشفها الأرشيف الإسرائيلي بشكل متكرر.

أيا يكن فإن غاية مقالنا هذا بجزأيه تتجاوز المواقف السابقة واستخداماتها الوظيفية الحالية نحو قراءة موضوعية للعلاقات والمفاوضات التي جرت ما بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية السورية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم من خلال تجنب ما يسميه المؤرخون أو المهتمون بالتأريخ بـ “المفارقة التاريخية” التي تقرأ التاريخ بمفاهيم اليوم وتعزله عن سياقه وتقرأه قراءة مجتزأة وانتقائية للوصول إلى نتائج مسبقة.

ليس كشفاً ولا جديداً

لا يمثل مقال مئير كشفا ولا يقدم جديدا إلا لمن يقرؤون التاريخ من خلال المقالات الصحفية أو يصدقون كل ما يكتب بغير لغتهم وخاصة بالإنكليزية. فقبل مناقشة المعلومات الواردة فيه وتفكيكها، نلفت عناية القارئ إلى أن الاتصالات بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية في سوريا برزت في الأرشيف الإسرائيلي منذ عام 2014 على الأقل. في هذا الصدد، يمكن الإحالة إلى دراستين هامتين وموضوعتين كتبهما الباحث الفلسطيني وأستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس محمود محارب لمجلة أسطور للدراسات التاريخية هما “المفاوضات بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية في سوريا” المنشورة عام 2015 و” من المفاوضات إلى الاختراق: العلاقات بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية والمعارضة الشهبندرية” عام 2017. الدراستان السابقتان، ورغم بعض التحفظات المنهجية عليهما، تقدمان القراءة الموضوعية الأهم والأشمل للأرشيف الإسرائيلي في هذا المسألة. في ضوء ذلك، تقتضي الأمانة العلمية الاعتراف أن بناء هذا المقال ومعلوماته قبل بناء الاستنتاجات الأولية سيعتمد على هاتين الدراستين الهامتين. ففضلا عن المعرفة الشخصية بكاتبهما وبعمله الجدي الرصين، خضعت الدراستان لنقاش وتدارس من قبل مؤرخين سوريين كبار لهم القدرة على تدقيق ما يروى عن تاريخهم وإبداء الرأي فيه. الأمر الذي يضفي عليهما قيمة معرفية كبيرة لا سيما أنهما تمثلان القراءة العربية الوحيدة للأرشيف الإسرائيلي.

مساعي الوكالة لاختراق الكتلة

حظيت سوريا بأهمية كبيرة بالنسبة للوكالة لليهودية ولا سيما بعد انطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى عام ١٩٣٦ والتي تزامنت مع نشاط سياسي محموم للكتلة الوطنية هدفه الضغط على فرنسا للإقرار باستقلال سوريا السياسي. هذه الفاعلية السياسية بالإضافة إلى المكانة الكبيرة التي تبوَّأها قادة الكتلة الوطنية شعبيا دفعت القسم العربي في الوكالة اليهودية إلى تكثيف نشاطه لتحقيق اختراقات وفتح اتصالات مع القادة والمسؤولين السوريين بما يخدم أهدافهم. وتشير الوثائق الى أن الوكالة نجحت في تجنيد عملاء صغار لها في سوريا أبرزهم عبد الله عبود، وكذلك ثلاثة من قادة الطائفة اليهودية الدمشقية هما داود لوزيه، داود بينتو، ويوسف لنيادو عضو المجلس النيابي. وبالإضافة إلى معرفة توجهات وميول قادة الكتلة الوطنية الذين كانوا يخوضون صراعا سياسيا مع فرنسا لتوحيد البلاد السورية واستقلالها، سعت الوكالة اليهودية عبر مجنديها إلى إيقاف كل أشكال الدعم السوري العسكري والمالي الذي كان له بالغ الأثر في استمرارية الثورة الفلسطينية ونجاحاتها. آنذاك وعلى الرغم من الانحياز العلني في المواقف الشخصية لغالبية قادة الكتلة الوطنية إلى جانب النضال الفلسطيني ضد بريطانيا والصهيونية الرامية لتنفيذ وعد بلفور في أرض الواقع، فإن الكتلة الوطنية لم تتخذ على المستوى السياسي الجمعي قررا علنيا واضحا بدعمها. يعزى ذلك الى التحفظات لدى جناح فيها من أن يؤثر هذا القرار سلبا على استقلال سوريا خاصة لدى فرنسا وبريطانيا وجهي الاستعمار القديم في المنطقة. أكثر من ذلك، طرحت ضمن النقاشات السياسية بعض الأفكار عن أن التفاوض مع الكتلة اليهودية ذات النفوذ المؤثر في الدوائر السياسية للدول الكبرى يمكن أن ينعكس إيجابيا على هذا المستوى.

جناحان داخل الكتلة

في تفاصيل الانقسامات تجاه الثورة الفلسطينية والموقف من الوكالة اليهودية فقد ظهر ضمن الكتلة الوطنية اتجاهان، أولهما يشجع على انخراط سوريا والسوريين العلني في دعم النضال الفلسطيني ومده بالسلاح والتبرعات المالية تماشيا مع المواقف المبدئية للكتلة الرافضة لمشروع الوطن القومي اليهودي، وكان شكري القوتلي ونبيه العظمة وعادل العظمة أبرز أصواته العالية. أما الموقف الثاني فكان متحفظا على دعم الثورة مهادنة وميلا للتفاوض مع الوكالة اليهودية خشية من ارتدادات سلبية للثورة الفلسطينية المسلحة على الوضع السياسي والأمني، المضطرب أصلا، داخل سوريا وعلى العلاقة المتلبسة مع فرنسا أيضا. وقد ضم هذا الفريق شخصيات قيادية عدة من أبرزهم جميل مردم بك ولطفي الحفار وفوزي البكري وفخري البارودي الذي كان كان أول قيادي في الكتلة الوطنية يلتقي مع ممثل الوكالة اليهودية إلياهو ابشتاين في فلسطين عندما زارها عام 1935 ومن  ثم رُتبت وجرت أول زيارة لأبشتاين إلى دمشق عندما اجتمعا في دوما 17 تموز 1936.

كان الفريق الثاني معجبا بالتطور العلمي والتقني لمشاريع الحركة الصهيونية في فلسطين وقد وصل الانبهار درجة حذر فيها البارودي نفسه من أن الخطر الأكبر للصهيونية على المشروع القومي العربي

يتجلى في هذا التطور قبل أي شيء آخر. انطلاقا من هذا الانبهار ومن قناعة خاطئة تربط بين استمالة الوكالة اليهودية وتسريع تحقيق الاستقلال، آمن الفريق الثاني بضرورة فتح مفاوضات رسمية لإيجاد حل ما كان يسمى “المشكلة العربية اليهودية في فلسطين” التي كان الملك فيصل أول من نادى بها لقطع الطريق على وعد بلفور وشكلت إحدى المبادئ السياسية للكتلة الوطنية. من المفيد هنا التذكير أن سياق هذه الاجتماعات والتي ستتكرر ويرتفع مستواها كما سنرى لاحقا يختلف عن السياق السياسي والاجتماعي الحالي بكل مفاهيمه وحمولاته السياسية الحالية وما تترتب عنه من نتائج لجهة إقامة أول دولة استعمارية استيطانية في المنطقة العربية خلال التاريخ الحديث. ويبدو جليا أن قادة الكتلة الوطنية لم يكن لديهم وعي كامل بأهداف المشروع الصهيوني في فلسطين الذي تبنى خلال الفترة 1936 و 1939استراتيجية ترحيل العرب من أراضيهم القريبة من الكيبوتسات نظرا لزيادة الهجرة اليهودية الى فلسطين.

الاجتماعات الرسمية الأولى: القوتلي حاضراً

بني على اجتماع دوما بين أبشتاين والبارودي أول اجتماع رسمي بين الكتلة الوطنية والوكالة اليهودية في آب عام 1936 حيث مثل الكتلة الوطنية كل من شكري القوتلي وفخري البارودي ولطفي الحفار بينما حضر الياهو ابشتاين وعاموس لندمن من الوكالة اليهودية. كان هذا الاجتماع استطلاعيا هدفه الحصول من الوكالة على معلومات وتوضيحات لتقرر الكتلة الوطنية ما إذا كانت ستفاوض أو لا. في هذا الاجتماع أعلن وفد الوكالة صراحة أن هدف المشروع الصهيوني في فلسطين يتمثل بإنشاء وطن قومي لليهود، وأن هذا الوطن، بحسب زعمهم، لن يكون على حساب العرب في فلسطين وسينعكس إيجابيا على مجمل الحركة القومية العربية. وبحسب محارب، فقد رفض الزعيم القوتلي ادعاءات الصهيونية في فلسطين ومساعيهم لإقامة وطن قومي لليهود وكذلك من الهجرة اليهودية التي ستؤدي حتما إلى جعل الحكم يؤول إلى اليهود عاجلا أو آجلا.  تشير الوثائق إلى أن رد شكري القوتلي كان واضحا وقاسيا لجهة رفض الادعاءات الصهيونية في فلسطين، حيث وضع الاجتماع في إطار سعي الكتلة إلى الوصول إلى تفاهم بين العرب واليهود مؤكدا أن هذه الفكرة ليست جديدة، حيث أن القادة السوريين كانوا ” قد تعاونوا مع المرحوم الملك فيصل بهذا الشأن منذ البداية وحتى قبل تتويجه ملكا على سوريا” جازما بأن التفاوض مع الوكالة اليهودية يمكن أن يستمر على هذا الأساس فقط.

وعلى الرغم من الرد السلبي السابق، فإن فتح باب التفاوض الرسمي مع قادة سوريا كان إنجازا كبيرا للوكالة اليهودية والتي استعجلت عقد الاجتماع الثاني في شهر سبتمبر 1936. انعقد الاجتماع في بيت لطفي الحفار الذي مثل إلى جانب القوتلي وفايز الخوري وفد الكتلة الوطنية بينما حضر إبشتاين وعاموس لندمان ويوسف نحماني ودافيد هاكوهين من الطرف الآخر. بالإضافة إلى محاولة تأكيد أحقية اليهود التاريخية في “العودة إلى صهيون” وإقامة وطنهم القومي، حاول

وفد الوكالة هذه المرة استخدام لغة مصلحية مفادها أن نجاح المشروع الصهيوني سيؤدي الى رفع معيشة الفلسطينيين مدعيا أن موهبة اليهود وتجربتهم وجهدهم ومالهم سيشكل عونا للعرب جميعا لتحقيق الأهداف المشتركة. جواب القوتلي كان مختصرا بجملة واحدة من خلال مثل عربي “حضرت مائدة الطعام على أكمل وجه ووضعت جانبها عصا” ساخرا من أن الرواية الصهيونية الحالية تتشابه مع الرواية الفرنسية في تبرير احتلالها لسوريا، الأمر الذي أوصل التفاوض إلى طريق مسدود.

ما يلفت الانتباه أن الزعيم القوتلي ركز خلال هذا الاجتماع على كتابة محاضر الاجتماع وطلب باسم الوفد السوري عدم نشرها من دون الحصول على موافقة مسبقة من الطرفين. الأمر الذي يدلل على أن الرجل كان يدرك حساسية المسألة وخطورتها المستقبلية فاشترط تدوينها كي لا تأخذ عليه أو ربما تحسب له.

أيا يكن، كان هذا الاجتماع هو آخر اجتماع رسمي في المفاوضات والتي كانت قيادة الكتلة الوطنية السورية على علم مسبق بها واطلعت على نتائجها، لكن اجتماعات أخرى حصلت مع عدد من قادة الكتلة من أبرزهم جميل مردم بك ومع قادة المعارضة لا سيما عبد الرحمن الشهبندر وهو ما سنعرضه في الجزء الثاني من المقال.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى