طريق الآلام للكاتب عبد الله مكسور، هو الجزء الثالث من روايته عن الثورة السورية، بعد أيام في بابا عمرو، ثم رواية عائد الى حلب. في الجزئين السابقين، يتحدث الكاتب عن بدايات الثورة السورية في سنواتها الأولى، حيث اندفاع مجموع الشعب المظلوم في التظاهر والمطالبة بالإصلاح والتغيير. والتجمع بالساحات بالملايين في مدن وبلدات سورية كلها، وردة فعل النظام العنفي على حراك الشعب، بالقتل والاعتقال والمطاردة، لتتحول سورية الى ساحة حرب من النظام على الشعب، وليبدأ الشباب الثائر بالتسلح وظهور بدايات للجيش الحر، ويزداد بعد ذلك عنف النظام ليصل الى مرحلة القصف بالطيران والمدفعية والصواريخ وحصول الاجتياحات والتدمير وسقوط الضحايا بمئات الآلاف وتشريد الملايين داخل سورية وخارجها كل ذلك حصل في السنوات الاولى للثورة السورية.
بتابع الكاتب روايته طريق الآلام هذه في رسم صورة الواقع السوري الثورة والشعب والنظام والقوى الفاعلة على الأرض، من خلال التحدث عن نفسه ضمن سياق السرد الذي يجعل الرواية أقرب إلى شهادة ذاتية على الأحداث.
تعتمد الرواية طريقة السرد على مستويين، كما الروايتين السابقتين؛ الأول وهو متابعة الحدث المعاش من قبله، ولكن بطريقة عشوائية بحيث ينتقل من حدث الى آخر سابق أو لاحق، وقد يعود للحدث ذاته أكثر من مرّة. أما المستوى الثاني في الرواية فهو سرد الكاتب التداعيات النفسية والحوادث والمشاعر، يستحضرها ويعيشها و يضعنا داخلها، بحيث نعيش معه، الحدث الواقعي والتداعيات النفسية المصاحبة له.
يستفتح الكاتب روايته عن تدريب أحدهم على سرد معلومات يحفظها عن نفسه وهو يحاول دخوله لليونان كلاجئ. تارة يقول عن نفسه أنه بلغاري وأخرى انه اسباني، وآخرها أنه جزائري، ويتركنا حيارى لماذا هذا المدخل، ويجعلنا نستنتج أنه هو وكل سوري وصل الى بلاد اللجوء، اضطرّ أن ينتحل قومية ما ليخفي أنه سوري اصبح يخيف العالم كله.
يعود صاحبنا لتذكر كيف قتلت جبهة النصرة صديقه الصحفي نيكولاس بالأسيد ومن ثم تم مواجهة مقرهم من مجموعة مسلحة اخرى، حيث فقد الوعي واكتشف نفسه، بعد ذلك محتجزا في غرفة، وكيف تم سحبه الى حفرة تشبه القبر، ووضع أمامها، ولُقن السلاح، واُطلق النار لكنه لم يُصب لم يمت، واكتشف انها لعبة من احد اصدقائه ممن هاجموا جبهة النصرة التي كانت تحتجزه وانقذه. لم يدم كثيرا عند هذه المجموعة، كان قد اعتزم على مغادرة سورية التي اصبحت مقتلة لا يُعرف اولها من آخرها. التقى عبر انتقاله بأحد الشباب حيث كان في جيش النظام، حدثه عن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب وبحق الثوار، القتل والاعتقال والتعفيش وكل الإساءات. وكيف إنشقّ عن النظام، ثم التحق بالجيش الحر، واكتشف بعد فترة الإختلاف والفرقة وولادة داعش والنصرة، واستخدام الثورة للمصالح الشخصية للقادة ورخص الناس وحياتهم، لذلك قرر أن يترك القتال ويخرج الى اوربا تاركا سورية وما يحصل فيها. انتقل من بلدة الى اخرى، ووجد نفسه مرة أخرى بين يدي جبهة النصرة، عايش وجود عناصر كثيرة غير سورية بينهم، من الجزيرة العربية والعراق والمغرب العربي وتونس ومصر.. الخ، الكثير منهم ممن كان في أفغانستان أيام الصراع مع الروس وفي العراق قبل وبعد احتلاله من الامريكان، الكل جاء للجهاد في سورية، حيث ستعلن دولة الخلافة بدء من سورية، لاحظ سهولة إصدار أحكامهم بالقتل وتنفيذه على كل مختلف عنهم، شاهد بعينه القتل والاعدام. وفي النهاية استطاع الهرب منهم باعجوبة. يتذكر صاحبنا كيف وقع سابقا بيد جيش النظام، وتذكر الوحشية التي وقعوا ضحيتها ومورست عليهم، كيف كان يُقتل أي إنسان لمجرد التسلية، وكيف أمروهم بالتعري، وأن يلتاطوا فيما بينهم، وقَتل البعض ممن لم يستجيب. ثم قتلهم جميعا بدم بارد.
كما سرد لنا ما حصل مع نوال احدى الفتيات المعتقلات، حيث تم اغتصابها وكل النساء والفتيات اللواتي تواجدن معها، لكثير من المرّات، البعض منهنّ متنّ فورا والبعض حملن وتم اجهاضهنّ، والبعض ولدن وعشن في المعتقل مع اولادهن. مارس النظام الأبشع من ذلك، اغتصاب الزوجة أو الابنة امام والدها او والدتها. نوال أخبرته عن شاب قتل أمامها وكان اسمه حمزة، إنه أخاه، كانت فجيعته كبيرة، لقد شارك بالثورة منذ أكثر من سنة وانقطعت أخباره، هاهي نوال تخبره عن قتله الٱن. كما حدثنا صاحبنا عن قصة عمر الشاب الذي كان يعمل في الخليج، حيث شارك بالتظاهر أمام سفارة النظام هناك، استدعاه الأمن في تلك البلاد، اتهموه أنه اخوان مسلمين وطردوه، و ومن ثم انتقاله الى سورية والمشاركة في الثورة، ليكتشف أنه ضائع بين نظام قرر قتل الشعب بإسم الوطن وحمايته، وقوى مسلحة اضاعت طريقها واصبحت تقاتل بعضها وتقتل الشعب بإسم الله وتطبيق الشرع؛ داعش والنصرة وغيرهما.
كان هدفه الأخير أن يخرج من سورية بروحه. مرّ مجددا الى بلدته طيبة الإمام، ووجدها خاوية وعلم أن أهله قد قتلوا جميعا، فُجع بذلك، انتقل مع البعض للخروج من سورية تحرك باتجاه تركيا، وفي طريق ذهابه دخل بلدة الدانة وحضر عرسا بين احد الثوار وفتاة عملت في الطبابة مع الثوار. ولم تكتمل الفرحة، جاءت داعش وقتلت كل من كان في الحفل، لقد كانوا يمارسون “حراما”؟ !!.
لسان حاله كل الوقت يقول”ما هي حكمتك يا الله بما يحصل معنا”؟ !. كما أنه كان يناقش -في ذاته- الله ويتساءل دوما؛ هل هذا هو الإسلام؟!!، ذلك الذي يستند عليه القتلة من داعش والنصرة. تابع هروبه الى الشمال السوري للوصول لتركيا، مرّ على مورك، هناك علم بصور قيصر، تابعها عبر النت بحث كثيرا عن صورة أخاه حمزة ولكنه لم يجده بينهم. صارت سورية مسرحا للقتل الدائم، والغريب أن يبقى الإنسان حيا فيها. هو في أواخر سنة ٢٠١٤م. يصل للحدود التركية، يعبر الى الداخل، يقبض عليه حرس الحدود، يحتجز عندهم لعدة أيام في الريحانية، يحققون معه ثم يطلقون سراحه، ومن هناك يذهب الى إنطاكية ثم اسطنبول حيث بقي فيها ثلاثة أيام، تعرف فيها على احدى العاهرات، وعاش معها ثلاثة ايام عوض فيها خوفه وحرمانه ونجاته من الموت في سورية،. قرر أن يغادر الى أوروبا عبر اليونان، كان قد حصل على جواز سفر مزور من احدهم، لأن اوراقه الثبوتية كان قد مزقها الجنود عند أول دخوله الى سورية. انتقل الى مدينة بدروم على الحدود التركية على بحر ايجه مقابل السواحل اليونانية، وهناك التقى وغيره مع المهربين؛ تجار البشر، واتفقوا على تهريبهم الى جزيرة يونانية. انتظر وآخرين عدة ايام وبعد ذلك ركبوا حوالي الثلاثين رجالا ونساء في قارب صغير وتركوا في عرض البحر، توجهوا الى ساحل جزيرة يونانية، تعطل القارب وتعاونوا على توجيهه، ثم توقف حيث انتهى الوقود فيه. ثم انقلب على من فيه من توترهم وخوفهم، وغرق من غرق وبقي صاحبنا في البحر ثماني ساعات واستطاع الوصول الى البر اليوناني مع البعض وغرق الآخرين، ومن هناك توجهوا الى بلاد اوروبية عدة، ليصنعوا لهم اوطانا بديلة، لكن سورية وطنهم الاصلي مازالت في اعماقهم، رغم كونها طردتهم منها.
هنا تنتهي الرواية
في تحليلها نقول:
٠ في هذا الجزء من الرواية تكتمل قصة الثورة السورية، التي بدأت مطالبة من الشعب باسقاط نظام الاستبداد ومحاسبته وتحقيق الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، وحولها النظام لمقتلة اودت بحياة اكثر من مليون انسان ومثلهم مصابين ومعاقين، وشردت أكثر من ثلاثة عشر مليون إنسان داخل سورية وخارجها، ودمرت أكثر من نصف سورية. كما ركزت الرواية على تبعات عنف النظام وولادة الجيش الحر الذي تمكن لوقت أن يكون صوت الشعب الثائر والسلاح الذي يحميه، لكن ذلك لن يستمر، يتنازع الثوار فيما بينهم ويكونون ضحية داعميهم واختلاف أجنداتهم، وانتهازية ومصلحية وخيانة البعض، ثم ستدخل القاعدة على خط الثورة السورية، عبر النصرة وداعش وتعيد الإستيلاء على المناطق المحررة، وتعتمد على قراءة متخلّفة للإسلام واصبحت هذه الجماعات قاتلة للشعب مثل النظام واصبح الشعب ضحية كل هؤلاء.
٠ يستنجد الكاتب كثيرا بالله وينتظر منه المدد والحل وانقاذ الناس و الإنتصار لهم. نعم هذا مقبول بالمعنى الانساني فمن للإنسان الّا الله لينصره في كربه؟. لكن هذا الاصرار من الكاتب على احالة ما يحصل في سورية لله عبر تساؤله: “ما هي حكمتك يالله مما يحصل معنا” والتي يكررها في الرواية لعشرات المرات كلازمة، تعبر عن قراءة خاطئة لما حصل ويحصل في سورية، النظام المستبد القاتل، والشعب الضحية والبلد المستهدف، طبعا الله فوق كل شيء، لكن ما حصل في سورية شأن بشري مسؤول عنه البشر نحن، يفهم عبر علم السياسة والاجتماع والمصالح الدولية، النظام الذي وعبر خمسين عام ينهب البلاد ويستعبد العباد، ويصنع تمييزا طائفيا ومجتمعيا وكيف رعى نزعة المصلحية والقتل عند الأمن والجيش وبعض حاضنتهم الاجتماعية وصنع بسورية ما صنع، وتُرك النظام من القوى الدولية المتحكمة بالعالم يفعل ما فعله، الهدف إسقاط الربيع السوري ووعوده في العدالة والحرية والديمقراطية، الربيع السوري يضر بالكيان الصهيوني ومصالح أمريكا والغرب، وبذلك أطلقوا يد النظام يقتل الشعب بلا اي رادع او محاسبة، واطلقوا يد روسيا وإيران وحزب الله والميليشيات الطائفية تقتل الشعب السوري وتشرده وتدمر سورية. كل ذلك لم يسلط الكاتب الضوء عليه. وهذا يخل في قراءة المشهد السوري، وما البحث عن الحكمة الالهية بما يحصل في سورية، دون النظر للنظام والقوى الدولية ومصالحها والقوى الاقليمية وأفعالها، الا هروب من طرح الحقيقة المعاشة او غياب الرؤية المدركة لترابط ما حصل في سورية مع ما حصل للربيع العربي كله، ومن المستفيد من خراب سورية. وإن اردنا أن نقيس على تجربة الرسول محمد ص سنقول أن الله كان مع نبيه في غزوة أحد ومع ذلك إنهزم الرسول وصحبه لأنه لم يأخذ بأسباب الحرب وأدوات نجاحها. كما أن قريش حاصرت الرسول ص وقبيلته والمسلمين في شعب في مكة لثلاث سنوات وكادوا أن يموتوا من الجوع ولم يتدخل الله. نعم لقد انتهى عصر تدخل الله في أحوال الناس، لقد تركهم يحصدون ما يزرعون ويحاسبهم يوم القيامة.
٠ وفي ذات السياق ايضا نؤكد أن الدين الإسلامي مكوّن حاضر بقوة في الشعب السوري، وأن تحويله لدعوة للدولة الاسلامية، وظهور القاعدة و داعش والنصرة، وأفعالهم، يجعلنا مسؤولين أن نحرر الدين الاسلامي من استخدامه السياسي، اداة بيد البعض، للتكفير والقتل واستباحة حياة الانسان فردا وجماعة. علينا أن نعلنها بوضوح أن السياسة شأن محكوم بالصالح العام، الذي لا يناقضه الإسلام بل يحضه على تحقيقه والحفاظ عليه، إن السياسة شأن علمي محكوم بقواعد ممكنة الادراك نأخذ بها، أهم نتائجها أن الحكم يعود للشعب وممثليه المنتخبين ديمقراطيا، فهناك مجلس تشريعي منتخب، وسلطة حكم منتخبة ايضا، وسلطة قضاء عادل، صحافة حرة، وتداول للسلطة. ومحاسبة المخطئ من السلطة. وأن كل ذلك شأن بشري، وأن كل إنسان حر في اعتقاده ودينه وايمانه، لم يعد هناك إجبار على أي اعتقاد وسلوك ديني، نحن امام مرجعية الضمير والالتزام بالقانون والمرجعيات الاخلاقية المتوافق عليها مجتمعيا. وبذلك نرفع المشروعية عن كل من يتحدث باسم الله. لم يعد هناك أنبياء جدد يرسل لهم الله الملائكة والتوجيه، أصبح البشر مسؤولون امام بعضهم عن أدوارهم في الحياة على كل المستويات.
أخيراً : لا بد من التنويه الى أن الرواية بأجزائها الثلاثة استطاعت وبجدارة أن تقدم صورة عن ما حصل في سورية في السنوات الأولى لثورة الشعب السوري، لقد صنعت ذاكرة وتوثيقا، هي وغيرها مما كتب أدبيا وسياسيا عن الثورة السورية. كما أن تقنية متابعة الحدث من جهة ومتابعة العالم النفسي الوجداني للكاتب بطل الرواية جعلنا نعايش تداخلا ناجحا بين الذات والموضوع وفي اوقات مختلفة وازمنة متداخلة جعلت الرواية شيقة وممتعة وفيها الكثير من المصداقية والقرب من موضوعها على الجانب العام والخاص.