العالم بعد الرأسمالية

باسكار سنكارا ترجمة: علاء الدين أبو زينة

استكمالاً لملف “مستقبل الرأسمالية” الذي نشرته مجلة “فورين أفيرز” ونشرت “الغد” ترجمات مقالاته في الأسابيع الخمسة الأخيرة، ننشر ترجمة أربع مقالات نشرتها مجلة “فورين بوليسي”، والتي تبحث أيضاً في خيارات الاشتراكية والديمقراطية الاجتماعية والرأسمالية. وجاءت هذه المقالات تحت عناوين: “العالم بعد الرأسمالية”؛ و” لماذا لن تعمل الاشتراكية”؛ “هل يستطيع الديمقراطيون الاجتماعيون إنقاذ العالم (مرة أخرى)؟”؛ “كيف أعاد التغير المناخي شحن اليسار؟”، وتأتي هذه المقالات في إطار الحوار الدائر حول بدائل الرأسمالية -أو اقتراحات إصلاحها- بسبب الاضطرابات الاجتماعية وتفاقم اللامساواة في المجتمعات الرأسمالية. ويطرح بعض المنظرين الآن استعادة شكل ما من الاشتراكية، إما كنظام بديل كامل أو بإدخال عناصر منه في النظام الرأسمالي الحالي.

* * *

لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أننا ما نزال نتحدث، في العام 2020، عن الاشتراكية. فبعد كل شيء، قبل 40 عاماً فقط، في الكثير من أنحاء العالم، إذا كانت لدى أحد ما هوية سياسية، فإنها يغلب أن تكون اشتراكية من نوع أو آخر. ربما كان هؤلاء قوميين من العالم الثالث يبحثون عن طريق للتنمية لأوطانهم المضطهدة منذ زمن طويل؛ أو مدافعين عن حقبة ليونيد بريجنيف، الاشتراكية المطبقة مسبقاً في الاتحاد السوفياتي ومداره؛ أو أنهم ربما كانوا ديمقراطيين اجتماعيين -لم يعودوا يبحثون عن اشتراكية لما بعد الرأسمالية، ولكنهم ملتزمون بإقامة “اشتراكية وظيفية” functional socialism على الطراز الاسكندنافي في داخل الرأسمالية نفسها.

لم تكن العقود الثلاثة الماضية رحيمة مع أي من هذه الاشتراكيات. انهارت اشتراكية الدولة فجأة؛ وأفضت محاولات الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف لتجديد النظام فقط إلى تقويض الإكراه الذي كان يبقيه متماسكاً. ولم يكن مصير الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا دراماتيكياً بهذا القدر: وصل إلى توقف بدلاً من الانهيار. وكانت ديمقراطية ما بعد الحرب قد اعتمدت على التوسع الاقتصادي -الذي كان هبة لكل من الرأسماليين والاشتراكيين على حد سواء- ولكن عندما شرع النمو في التباطؤ على مدى العقود الماضية، وحققت مطالب العمال الشجعان بتحسين الأجور تقدماً عميقاً في مجال أرباح الشركات، ثار أصحاب الأعمال ضد هذا النموذج.

استجابت الديمقراطية الاجتماعية السائدة لهذه الأزمة بوقف تقدمها المساواتي والدفاع فقط عن المكاسب الحالية. وفي نهاية المطاف، استقرت على محاولة فرض تدابير معتدلة لإعادة توزيع الدخل على العقيدة الاقتصادية لليبرالية الجديدة. أما بالنسبة لورثة القوميين، من أمثال مايكل مانلي (1) في جامايكا وجوليوس نيريري (2) في تنزانيا، فقد اتخذوا انعطافة أكثر تطرفاً، من خلال قبول مذاهب الليبرالية الجديدة من صندوق النقد الدولي والسعي إلى جذب الاستثمار الأجنبي إلى بلدانهم بأي وسيلة.

لكن الأفكار الشائعة التي تتمتع بالشعبية لا تموت بهذه السهولة. في العقود التي تلت العام 1917، انتقل الاشتراكيون من منظِّمين على الهوامش إلى أسياد في جزء كبير من العالم. وقال المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم Eric Hobsbawm إنه لم يحدث مثل هذا التقدم منذ التقدم السريع للإسلام في القرن السابع. ومهما يكن، فإن الناس الذين رأوا أنفسهم ملزمين أخلاقياً بالبحث عن عالم مختلف جذريا في تلك الأيام، لم يختفوا.

الأهم من ذلك، أن عالمنا ما يزال ينطوي على الكثير من الظلم المادي الذي يدفع إلى ولادة أجيال جديدة من الاشتراكيين. ثمة ملايين الأشخاص الذين يموتون كل عام بسبب أمراض تمكن الوقاية منها. ويقضي كثيرون آخرون حيواتهم غارقين في الفقر. وحتى حيث نجحت التنمية الرأسمالية وفقاً لشروطها الخاصة، فإن الوفرة الجماعية كانت مصحوبة بعدم تلبية الاحتياجات الأساسية للناس الأكثر هشاشة. وما مِن مثال أوضح من الولايات المتحدة -أغنى مجتمع في التاريخ، لكنه أيضاً مجتمع يعيش فيه أكثر من نصف مليون شخص بلا مأوى وتكافح واحدة من كل 8 أسر ضد الجوع.

في الحقيقة، ليست اللامساواة نتيجة عرَضية للرأسمالية -التي تفصل أولئك الذين يملكون الأدوات التي يستطيعون من خلالها إنتاج السلع والخدمات عن البقية من الذين يتعين عليهم وضع أنفسهم تحت رحمة المالكين للبقاء على قيد الحياة. إن اللامساواة هي في صميم النظام. وقد لا يكون تكوين الثروة الرأسمالية لعبة محصلتها صفر، لكن الصراع بين أصحاب العمل والعمال حول الاستقلال والسلطة في أرضية المصنع هي كذلك. وبدلاً من أن تتبدد، أصبحت التناقضات الكامنة في قلب الرأسمالية أكثر وضوحاً على مدار العقود القليلة الماضية.

في سبعينيات القرن الماضي، كبحت الليبرالية الجديدة الناشئة التضخم واستعادت الربحية للبلدان ذات الدخل المرتفع في الشمال العالمي -وإنما فقط من خلال شن هجوم شرس ضد العمال. ومنذ ذلك الحين، ظلت الأجور الحقيقية راكدة، وحلّقت الديون، وأصبحت آفاق الأجيال الشابة -التي ما تزال تتوقع أن تعيش حياة أفضل من والديها- قاتمة. وفي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كما هو الحال في الاقتصادات ما بعد الصناعية الأخرى في جميع أنحاء أوروبا، كانت المرونة المتزايدة لدى أرباب العمل تعني دائماً زيادة عدم اليقين بالنسبة للعمال.

* * *

هنا تدخل الاشتراكية، أو تعاود الدخول. ربما تكون الشعبية العائدة لمصطلح “الاشتراكية” مجرد صدفة -إنها لغة لطالما استخدمها منذ وقت طويل حاملو المفاهيم المعيارية الحركة، جيريمي كوربين في المملكة المتحدة وبيرني ساندرز في الولايات المتحدة، والتي يجعلونها الآن تياراً سائداً. وهم يعرضون مطالب موجودة في غرفة قيادة الديمقراطية الاجتماعية: دعوات إلى توسيع الخدمات الاجتماعية، مثل خلق الوظائف الحكومية واتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ. لكن كوربين وساندرز يمثلان شيئا بعيداً جداً عن الديمقراطية الاجتماعية الحديثة. ففي حين أن الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا قضت العقود القليلة الماضية في التحول إلى أداة لقمع الصراع الطبقي لصالح الترتيبات الودية بين الأعمال والعمال والدولة، يشجع كوربين وساندرز وأقرانهم على تجديد العداء الطبقي من أسفل.

بالنسبة لساندرز، على سبيل المثال، يتمثل الطريق إلى التغيير في المواجهة مع النخب. وتدور حركته حول خلق “ثورة سياسية” للحصول على ما هو حق للناس من “المليونيرات والمليارديرات”. وخطابه يقوم على الاستقطاب على أساس خطوط طبقية، واستراتيجية حملته هي إعادة تعبئة الناخبين من الطبقة العاملة. وهي بالمثل، حركة اجتماعية لـ”الكثرة” ضد “القلة” بالنسبة لكوربين. ويمكن لهذا النوع من السياسة فقط، كما يعتقد الرجلان، أن ينشئ بيئة يمكن فيها تفعيل برنامج إصلاحي جديد مرة أخرى.

ولكن، ما هو الاشتراكي في هذا البرنامج، وما الذي يحول دون وقوعه في الأزمة نفسها التي تقهقر أمامها الديمقراطيون الاشتراكيون في سبعينيات القرن الماضي؟

الإجابة عن السؤال الأول أسهل من الإجابة عن السؤال الثاني. بالإضافة إلى الوسائل التي يسعى ساندرز وكوربين إلى اتباعها -خطاب النضال الطبقي والتعبئة الجماهيرية الديمقراطية- يقترح الرجلان توسيعاً للسلع الاجتماعية في عصر تتراجع فيه دول الرفاهية في جميع أنحاء العالم. ويبدو أن ساندرز عازم على البدء في تأميم صناعة التأمين الصحي التي تواجه الكثير من الانتقادات، والتي تبلغ قيمتها تريليون دولار. بل إن هناك سمات اشتراكية أوضح وأكثر قابلية تمييز، هي تلك العناصر في برنامج حملته الرئاسية للعام 2020 والخطط الموازية التي دفعها حزب العمال بزعامة كوربين لتوسيع القطاع التعاوني، وإنشاء مشاريع مملوكة للمجتمع، ومنح العاملين أسهماً في الشركات التي يعملون فيها.

تكمن الإجابة عن السؤال الثاني في تخيل ديمقراطية اجتماعية لا تحاول فقط إعادة تشكيل الرأسمالية لصالح العمال، وإنما تسعى أيضاً إلى إعادة هيكلة للعلاقات الاقتصادية بشكل دائم.

وسوف يعني مثل هذا النظام محاولة نقل -ليس الثروة فقط، وإنما السلطة أيضاً، بعيداً عن الرأسماليين في القطاع الخاص وإلى حركة عمالية منتعشة. وسوف تكون هذه مهمة صعبة. إن أي اشتراكي ديمقراطي يحكم، بغض النظر عن نواياه، سيجد دائماً أن الانتقال إلى اليمين أسهل من اليسار. من جانب، سوف يجد هؤلاء ضمانات للاستقرار من المصالح السياسية والاقتصادية القوية، بينما هناك على الجانب الآخر ضربات رأس المال ومقاومته العنيدة. واليوم، حتى أكثر مما كان عليه الأمر في القرن العشرين، لا يواجه الاشتراكيون مشكلة كيفية الفوز بالسلطة فحسب، وإنما مشكلة كيفية صد محاولة رأس المال تقويض برنامجهم بمجرد أن يصبحوا في الحكومة. وفي تأملاته في الأعوام التي قضاها في حكومتي هارولد ويلسون وجيمس كالاهان في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أبرز توني بن، البرلماني العمالي البريطاني، ذلك الإكراه الدنيوي الذي جاء مع السلطة: افعل ما تريدُه المصالح الراسخة، وسوف يجعلونك تبدو جيدا؛ حاول متابعة أجندتك الخاصة، وسوف يجعلون حياتك مستحيلة.

بعبارات أخرى، فإن التسوية الديمقراطية الاجتماعية، حيث تتم إعادة توزيع الثروة بينما تبقى المُلكية على حالها بدون أن تُمس، غير مستقرة بطبيعتها. إنها تواجه تحديات في اتجاهين. سوف يسعى رأس المال إلى السيطرة عليها من البداية، ولكن إذا حققت الإصلاحات الأولية النجاح، فستكون للعمال المزيد من القوة لتوجيه الضربات، ويمكن أن تؤدي زيادة قدرة العمال على المساومة إلى فتح طرق غير قابلة للاستدامة إلى ربحية الشركات -وهو ما ينطوي على إمكانية إثارة أزمة اقتصادية، وعودة محتملة إلى البرامج التي يمكن أن تضمن بيئة عمل أكثر ملاءمة.

في الحقيقة، لم تعمل دول الرفاهية في الستينيات والسبعينيات على استرضاء العمال؛ لقد جعلتهم أكثر جرأة فحسب. ويمكن لسياسات انتقالية، مثل ضمان الوظائف الفيدرالية التي اقترحها ساندرز وآخرون أن تفعل الشيء نفسه في وقتنا الراهن. وبذلك، يجب أن تعثر أجندة اشتراكية حقيقية على طريقة للتقدم بدلاً من التراجع في مواجهة عدم الاستقرار ذاك -ليس لأسباب أيديولوجية فحسب، وإنما لتجريد الرأسماليين من قدرتهم على حجب الاستثمار وتقويض الإصلاحات.

* * *

ما يزال من غير الواضح إلى أي مدى يمكن أن تكون مثل هذه الأجندة ممكنة في عصر تم فيه تدويل رأس المال، وتباطأت فيه معدلات النمو الاقتصادي في معظم البلدان المتقدمة، وبينما تهدد الأتمتة معاقل القوة المتبقية للطبقة العاملة. لكن من الواضح أنه ما لم يكن الاشتراكيون راغبين في إعادة القوس الاجتماعي الديمقراطي للقرن العشرين (من التقدم الثابت إلى التراجع المطرد)، فإن التركيز يجب أن يكون منصباً من البداية على الملكية وزيادة سيطرة العمال على الاستثمار.

وإذن، كيف يمكن أن تبدو الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين؟ إنها قد يعني توسيعاً كبيراً للحقوق الاجتماعية والاقتصادية -دولة توفر أكثر من الحماية من العوز، لكنها تضمن بشكل إيجابي أيضاً توفير الإسكان والرعاية الصحية ورعاية الأطفال والتعليم- والمُلكية العامة للاحتكارات الطبيعية والمؤسسات المالية. وسوف توجد هذه الأشياء إلى جانب مجال تنافسي يحركه السوق حيث يتم استبدال الملكية الرأسمالية الخاصة بملكية العمال. أي أن العمال سينتخبون إدارتهم الخاصة وتكون لديهم حوافز معنوية ومالية ليكونوا منتجين من خلال كونهم أصحاب مصلحة حقيقيين يحصلون على حصة من أرباح الشركة بدلاً من الأجور الثابتة. وسوف تشكل مثل هذه التحولات نقطة الانطلاق لأول مجتمع ديمقراطي اشتراكي حقيقي للحداثة.

ولكن، مهما كان النموذج الدقيق لاشتراكية ما بعد الرأسمالية، فإنه يجب أن يكون بسيطاً ولا يتطلب أي تغييرات هائلة في الوعي الإنساني. يجب أن يكون مدفوعاً بمحاولة جادة لتجنب تكرار ما فشل في الماضي -خنق التعددية السياسية والحقوق المدنية في أنظمة الدولة الاشتراكية، وكذلك المشاكل الاقتصادية للتخطيط المركزي. بدلاً من ذلك، يجب أن ينتخب هذا النموذج التجارب التي نجحت -توفير خدمات اجتماعية عالمية وتعاونيات مملوكة للعمال- وبناء نظام اجتماعي حولها في مسيرته نحو تحقيق وعد التنوير المؤجل منذ زمن طويل بالحرية، والمساواة، والإخاء.

المصدر: الغد الأردنية/ (فورين بوليسي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى