هل يغير “كوفيد 19” دولة الرفاه؟  المجتمعات ترعى نفسها مع تخلي الحكومات عن مسؤولياتها

ريتشارد سينيت*    ترجمة: علاء الدين أبو زينة

في حي “دارافي” الفقير في مومباي، أصيبت امرأة معروفة في المجتمع باسم السيدة ميهتا بفيروس “كوفيد- 19”. ولم تكن حظوظها جيدة: كانت شبكة الأمان الاجتماعي في مومباي ضعيفة، ولم يكن هناك في أي مستشفى عام مكان لها. ولأنها تعمل خادمة، لم تكن لديها نقود إضافية لدفع ثمن زيارة طبيب. لكنها لم تكن وحيدة تماما مع ذلك؛ فقد شكّل مجتمع دارافي شبكة تستخدم تطبيقات الهاتف المحمول، مثل “إنديا تشات”، أو حتى “أول إنديا تشات” (وهو تطبيق مواعدة على مستوى البلاد معاد التوجيه) لربط الجار بالجار. ومن خلال هذه الشبكات، علم سكان آخرون في المنطقة بأن السيدة ميهتا أصيبت بالمرض. وكل يوم، كان أحدهم يقوم بتوصيل الطعام إليها، ويتراجع عن الباب عندما تفتحه لتحيته. ثم تغلق الباب، ويتحدث الاثنان لعدة دقائق قبل أن يغادر الجار.

من الواضح أن هذا الوضع لم يكن علاجا لمرض السيدة ميهتا. وفي واقع الأمر، ماتت الأرملة المسنة بعد 13 يوما فقط من ظهور الأعراض الأولى عليها. كان المستشفى العام المحلي مثقلًا مُسبقاً، ولم يتمكن المسعفون المحليون الذين يفتقرون إلى معدات الحماية أو الإمدادات الطبية المتنقلة، من القدوم لمساعدتها. ومع ذلك، لم يكن موتها غير مرئي. في مكان يتم فيه اعتبار حصيلة الوباء أمرًا مفروغًا منه تقريبًا، عملت تطبيقات مثل “إنديا تشات”، الذي تجعل مكتبة الرموز التعبيرية فيه الرسائل قابلة للقراءة حتى لمن لديهم مستويات منخفضة من معرفة القراءة والكتابة، على توسيع وتعزيز التماسك المجتمعي. وبدلاً من أن يقتصر خبر موتها على مجموعة من أصدقائها، لاحظ ما يقرب من 2000 شخص في شبكة السيدة ميهتا رحيلها ورثوها وحزنوا عليها.

يثير مسار الأيام الأخيرة للسيدة ميهتا -ووباء “كوفيد- 19” ككل- سؤالًا جديدًا حول كيفية تنظيم الحكومات والمواطنين لبرامج الرعاية الاجتماعية في المجتمعات الفقيرة -التي تكون فيها شبكة الأمان ضعيفة أو ممزقة أو غائبة جملة وتفصيلاً. وعلى الرغم من أن تقنيات الهاتف المحمول لا يمكن أن تحل محل أجهزة التنفس الاصطناعي والعلاجات المتقدمة، فقد أصبحت توفر خدمة اجتماعية تشتد الحاجة إليها: إحساساً بالترابط كان غائبًا في يوم من الأيام. وقد لا تصمد مثل هذه المنتديات عبر الإنترنت بعد الوباء، لكنها أظهرت، من خلال الدور الذي تلعبه في أماكن مثل دارافي، الحاجة –والإمكانية- لوجود بدائل مرنة ومتجاوبة عن البيروقراطيات الصارمة التي تميل إلى الهيمنة على الرفاه المجتمعي.

التكنولوجيا والفصل بين المجتمعات

الغيتوهات في المناطق الحضرية هي جزر أكثر من كونها مجرد بقع من الحبر: لها محيطات محددة بإحكام تعزلها عن الأحياء الأكثر ثراءً. وغالبًا ما كان المخططون الحضريون في القرن العشرين، سواء في مدينة نيويورك أو كاراكاس، يرسمون الطرق السريعة بطريقة تفصل الفقراء عن عمَد. وباستثناء الخدم المقيمين، فإن الإسكان المختلط غائب إلى حد كبير في مدن مثل ريو دي جانيرو وجوهانسبرغ. وتحجب شنغهاي الوصول إلى الخدمات، مثل التعليم والرعاية الطبية، عن أولئك الذين يفتقرون إلى “جواز سفر” مقيم، مما يؤدي فعليًا إلى تطويق وعزل عدد كبير من العمال المهاجرين في المدينة. وقد وثّق عالم الاجتماع، دوغلاس ماسي، العمق الهائل للتقسيم وتكوين الغيتوهات العرقية في المدن الأميركية.

يؤثر هذا الفصل على توفير الرعاية الصحية بطريقة معينة. وقد سعت الأمم المتحدة منذ فترة طويلة إلى تلبية الاحتياجات الطبية في جنوب الكرة الأرضية من خلال بناء عيادات محلية صغيرة الحجم داخل المجتمعات الفقيرة. لكن القليل من هذه المرافق يمكن أن يوفر البيئة الواقية والآلات المعقدة التي يتطلبها التعامل مع “كوفيد- 19”. ومن المرجح أن تتركز هذه المعدات في المستشفيات المركزية في المدن. ولذلك، كشف الوباء عن محدوديات اللامركزية الطبية، حيث يجتاح المرضى بطريقة يائسة عيادات غير مجهزة بشكل كاف لمواجهة أزمة بهذا الحجم والفتك. وتقدم مدينة هافانا الكوبية استثناءً ساطعًا: فقد نجحت عيادتها الصحية المحلية في تدبر أمورها ببراعة، مع وجود جزء ضئيل فقط من الموارد التي يمكن أن تمتلكها مدن مثل نيويورك أو لندن. لكن القليل من المدن الأخرى في الجنوب العالمي هي التي تمكنت من الوفاء بهذا المعيار.

لدى المجتمعات التي تختبر مثل هذه التجارب المتباينة مع الوباء تجارب متباينة أيضًا مع التكنولوجيا الرقمية. منذ ظهور فيروس كورونا الجديد، ركزت الصحافة الغربية مناقشتها للتكنولوجيا على المجتمعات الغنية، حيث يتيح الاتصال للناس العمل من المنزل وتجنب استخدام وسائل النقل الجماعي، مما يؤدي إلى تقليل الكثافة في وسط المدن. ولكن، في الأحياء الفقيرة في مومباي، والأحياء الفقيرة في ريو، وبلدات جوهانسبرغ، يعتبر مثل هذا الحديث ترفاً. لا يمكن لأي شخص أن يقوم بنقل القمامة أو تنظيف المنازل عبر الإنترنت، والفقراء الذين يعملون يدويا هم بالضرورة أكثر عرضة للمخاطر. وقد ابتكرت شركات “أبل” و”غوغل” تطبيقات اختبار وتتبع تعمل بشكل جيد –ولكن، حتى عندما يتم تحديد المرضى في الأحياء الفقيرة، ما الذي سيأتي بعد ذلك؟ في كثير من الحالات، تكون وسيلة العلاج الوحيدة المتاحة هي الحجر الصحي، ويفتقر الأطباء والممرضات المحليون إلى القفازات الجراحية ومعدات الحماية الأخرى. ويشكل الهاتف المحمول، كما هو حاله، الأداة الطبية الوحيدة التي يمتلكها بعض المهنيين في الخدمات الصحية.

وهكذا تبنت المجتمعات الفقيرة شبكات الإنترنت كملاذ أخير وبديل للرعاية الفاشلة أو المفقودة تماما للحكومات. وفي موئل الأمم المتحدة، حيث أقدِّم المشورة، رأينا أدلة تشير إلى أن مثل هذه الشبكات قد انتشرت في جميع أنحاء العالم. وهي تستند إلى تطبيقات غرف الدردشة المجانية التي تتميز بالبساطة التكنولوجية وسهولة التثبيت. وتسمح هذه المنصات لأفراد المجتمع بتقديم خدمات الدعم لبعضهم البعض، والتحقق من التحويلات المالية الصغيرة، والتواصل مع أفراد الأسرة البعيدين، بما في ذلك أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية. وقد استخدمت المجتمعات الفقيرة شبكات الإنترنت للتخفيف من المخاطر اليومية ومعالجة الاكتئاب والعزلة التي فرضها الوباء وعمليات الإغلاق التي ترتبت عليه.

شبكات جديدة

قد تأخذ شبكات المساعدة عبر الإنترنت في اعتبارها عمل منظمات المساعدة المتبادلة التي أنشأتها مجتمعات الطبقة العاملة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر، مثل مجتمعات الدفن والبنوك التعاونية ومقدمي الرهن العقاري. لكن الحاضر ليس استنساخًا للماضي. كانت مجموعات المساعدة المتبادلة في تلك الأوقات عبارة عن جمعيات تطوعية مثل تلك التي وصفها ألكيسيس دي توكيفيل Alexis de Tocqueville: جماعية لكنها رسمية، تتطلب من الناس التقدم بطلب للحصول على العضوية ويتم التحقق منهم. لكن الإنترنت ليس توكيفيلياً: لا توجد أي معايير للعضوية بخلاف امتلاك هاتف محمول. والمجتمعات غير رسمية، وسائلة، ومفتوحة للجميع.

وكما طرحت عالمة الاجتماع ثيدا سكوتشبول Theda Skocpol، يحتاج نظام الرعاية الاجتماعية إلى دولة رفاهية. فقد أثبتت المنظمات التطوعية كونها غير كافية ولا مناسبة مطلقا للتعامل مع الاحتياجات الاقتصادية لأولئك الذين يعانون أثناء “الكساد العظيم”، تمامًا كما لا تستطيع شبكات الاتصال عبر الإنترنت وحدها أن تعالج الأشخاص الذين يعانون من ضائقة طبية اليوم. ومع ذلك، هناك دروس يمكن تعلمها من الجهود السابقة.

في العام 1942، صاغ ويليام بيفريدج William Beveridge مخططه المؤثر لدولة الرفاهية البريطانية في فترة ما بعد الكساد، وما بعد الحرب. وركز فيه على استقرار المجتمع من خلال اعتماد حد أدنى أساسي للأجور، وضمان دخل تقاعدي معين، وتقديم رعاية طبية مجانية في نقطة الخدمة. وجعل نموذج بيفريدج الناس العاديين هم المستفيدون من المساعدة: كانوا في الأساس جمهورًا لسلطة الدولة ولم يشاركوا في توفير رفاهيتهم الخاصة.

قد يعيق مثل هذا التفكير استجابات الحكومات المركزية لأفقر مواطنيها المحتاجين اليوم. يجب على مسؤولي المستشفيات في مومباي الانضمام إلى شبكة حي دارافي واستخدامها كنظام للإنذار المبكر والمراقبة. لكنهم لم يفكروا مطلقاً في القيام بذلك، ربما لأن أعضاء المجتمع عبر الإنترنت هم أشخاص غير مهنيين يعتبرهم المسؤولون جاهلين -وفقراء. لكن المجتمعات عبر الإنترنت توفر للسلطات الصحية فرصة، إذا استغلت ذلك، لإشراك الجمهور -ليس كمستفيدين ومتلقين للرعاية، وإنما كمشاركين في توفير الرعاية.

أدرك بيفريدج وأقرانه أن القوى التي تزعزع استقرار مجتمعاتهم هي قوى اقتصادية وعسكرية. ولم يتصوروا وجود ضغوط مثيرة للاضطراب مثل الأوبئة أو تغير المناخ. ولعل الدرس الكبير المستفاد من الفترة التي يمر بها الكوكب الآن هو أن هذه الضغوط ذات طبيعة متكررة وليست عرضية. وعندما تتم السيطرة على “كوفيد- 19″، سيحل محله مرض آخر يهدد العالم. وقد تقدم تغير المناخ حتى الآن لدرجة أن آثاره ستزعزع استقرار المجتمعات لأجيال قادمة.

قبل عقد من الزمن، باع مقدمو التكنولوجيا سلعهم للجمهور كعلاج تحويلي لجميع أمراض المجتمع. ولكن حتى الآن، أثبتت أدوات التكنولوجيا العملاقة أنها غير ملائمة لمهمة معالجة الاضطرابات الجهازية. وتبقى الخدمات المقدمة للأثرياء لا معنى لها بالنسبة لجماهير الناس الغارقين في الفقر. وبالنسبة لمجتمع فقير في أزمة، فإن السرعة وعرض النطاق الترددي وسعة التخزين ليست كلها شؤوناً ذات صلة. والحاجة الأكبر هي للاتصال: لسماع المرء صوت أحد أفراد أسرته، وتلقي رسالة من الجار الذي يحتاج إلى المساعدة، ومعرفة أن قريبًا بعيدًا قد نجا من العدوى. وللأسف، في الهند وفي أماكن أخرى، تدعم سياسة الحكومة التكنولوجيا الفاخرة وتفشل في توظيف الخدمات البسيطة القابلة للاستخدام التي تربط المجتمعات الفقيرة ببعضها البعض -وربما أبعد.

*Richard Sennett: سينت هو مستشار أول لبرنامج الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ والمدن، وزميل أول في مركز الرأسمالية والمجتمع بجامعة كولومبيا، وأستاذ زائر للدراسات الحضرية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Can COVID-19 Change the Welfare State?

المصدر: الغد الأردنية/(فورين أفيرز)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى