قبل الحرب في سوريا، كانت مدينة إدلب بطرقاتها التي تصطفّ على جانبيها الأشجار والمباني الحجرية البيضاء، معروفة بهوائها العليل الهادئ. واليوم، فإن تلك المدينة تفيض بالعائلات التي فرت من الحرب من مناطق أخرى من سوريا، مما أدى إلى تضخم عدد السكان الذي تجاوز المليون. أولئك الذين لم يجدوا مأوى، وجدوا ملاذاً في ملعب لكرة القدم، وهناك عدد أكبر تراهم يصطفون في الخارج للحصول على المساعدات الغذائية. وقد اعتاد السكان على القصف لدرجة أن أحداً لم يعد يشعر بالرجفة القديمة عند سماع صوت انفجار. لكن الأسوأ لم يأت بعد في آخر مدينة تسيطر عليها المعارضة السورية.
إلى الشمال (من إدلب)، يعيش ما يقرب من مليون شخص على جوانب الطرق وفي بساتين الزيتون في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في الحرب السورية الوحشية التي استمرَّت نحو تسع سنوات. إلى الجنوب والشرق، تتمركز قوات الحكومة السورية المدعومة بالطائرات الحربية الروسية على بعد خمسة أميال فقط. وعندما يصلون إلى مدينة إدلب، فمن المحتمل أن يفرّ عدد سكانها البالغ عددهم حالياً نحو مليون نسمة، مما يضاعف من أعداد النازحين في الشمال. وقد حثّ جرّاح العظام حكمت الخطيب، والديه، على الانتقال إلى الشمال، لكن عندما قُصفت البلدة قررت والدته البقاء.
وقال الخطيب: «لقد صدمني كلامها؛ أن الخيار الوحيد هو انتظار الموت».
قمت بزيارة إلى إدلب مع مصور ومترجم فوري، الأربعاء الماضي، عبر الحدود من تركيا. رافقنا عمال الإغاثة من جمعية خيرية سورية وأعضاء في جماعة متطرفة هي «هيئة التحرير الشام» التي تسيطر على المحافظة. وجدنا 100 أسرة في مخيمات داخل الاستاد الرياضي، بعد أن تحول إلى ملجأ للطوارئ. كانت أمينة سحلول تجلس على الأرض حول موقد في غرفة كبيرة تحت الأرض مخصصة للنساء والأطفال. كانت قد وصلت قبل ساعات، فراراً من قريتها في جوف الليل، متشبثة بأحفادها الخمسة خلف ابنها على دراجة نارية. قالت: «لقد خرجنا بسبب الغارات الجوية. بدأوا بإلقاء القنابل العنقودية التي كانت مثل النار تتساقط من السماء».
لم يكن هناك تهاون في التعامل مع سكان محافظة إدلب، حيث شقّت قوات الرئيس بشار الأسد، المدعومة من القوات الجوية الروسية، طريقها إلى الأمام بعد أن هدمت البلدات والقرى في جنوب وشرق المحافظة بضربات جوية على سبيل العقاب. وبدا وقف إطلاق النار الخميس الذي أعلنته تركيا، التي تدعم قوات المعارضة السورية، فيما تدعم روسيا الحكومة السورية، قراراً ساري المفعول حتى الجمعة، لكن القليلين يعتقدون أنه سيستمر. وأصر الأسد على أنه سيواصل هجومه لاستعادة إدلب، وتعهدت المعارضة بالمقاومة.
وزادت حدة التوتر في ملعب كرة القدم، عندما وردت أنباء عبر الراديو عن أن الطائرات الروسية باتت قريبة، مما جعل الجميع يحدقون في السماء في رعب.
وعندما سقطت قذيفة مدفعية على حي مجاور، كان من الغريب أنه لم يأبه لها سوى قلة من الناس، فقوات الحكومة السورية تطلق الصواريخ طوال الوقت. لكن عندما تبدأ الطائرات الروسية في شن هجوم، فإنها تستخدم القوة الساحقة، وتطلق القذائف بغزارة لتجبر الناس على الفرار خلال دقائق. وقال حسن يوسفي بينما يسير حول ملجأ الرجال في الملعب: «كلما سمعت صوت طائرات أبدأ بالركض كالمجانين، أفقد عقلي. عشت بجانب الطريق السريع لمدة 45 عاماً. قتل أخي بعد أن قصفنا الروس».
– مدنيون ومتطرفون ومعارضة
تسير الحياة خارج الملعب كالمعتاد. فالشوارع مزدحمة بالسيارات والدراجات النارية والنساء تمشي في شارع التسوق الرئيسي. لكن المدينة لا تنعم بالكهرباء سوى لساعتين يومياً، وكثيراً ما ترى الأولاد يبيعون البنزين في عبوات بلاستيكية على نواصي الشوارع.
كانت إدلب بعيدة عن سيطرة الحكومة طوال فترة الحرب، واليوم تخضع بدرجة كبيرة لسيطرة لجماعة «هيئة تحرير الشام» المتطرفة. ولكن عدداً محدوداً من المسلحين وجود في الأفق في مدينة إدلب، عاصمة المقاطعة، الأربعاء. يقف ضباط الشرطة الموالون للمعارضة كحراسة خارج مكتب المحافظ ومركز الشرطة، لحمل عبء القتال منذ الأيام الأولى للثورة. وتحمل لوحات الإعلانات المنتشرة في جميع أنحاء المدينة ملصقات لامعة للمقاتلين تدعو الناس للانضمام إلى القتال لأنه «لا شرف من دون الجهاد» كما يقول ملصق قرب نقطة تفتيش.
وقال أبو أحمد محمد، المتحدث باسم «جماعة تحرير الشام»، إن انهياراً حدث خلال الشهر ونصف الشهر الماضي. لكنه أضاف أن النظام السوري فقد كثيراً من الجنود بأعداد فاقت خسارة المعارضة، واضْطُرّ لجلب مقاتلين تدعمهم إيران لاستعادة مدينة سراقب الاستراتيجية التي تغيرت السيطرة عليها عدة مرات خلال الأسبوعين الأخيرين.
لكن معظم سكان الإقليم البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة، هم من المدنيين، وقد أصابهم اليأس من إنهاء العنف، فهم يتشبثون بالأمل في أن يؤدي نشر تركيا المتزايد لقواتها في المدينة إلى وقف الهجوم عليهم. وقال عبد الرزاق، رئيس قسم الإغاثة الطارئة في جمعية «فيوليت» الخيرية السورية، إن «أي شيء يجعلنا نشعر بالأمان أو يخلصنا من النظام أمر جيد للغاية».
وكان فريقه يتولى مساعدة الناس على الفرار من القرى على الخطوط الأمامية، ويعدون السكان للفرار في حالة حدوث إجلاء جماعي للمدينة.
على بُعد ساعة بالسيارة إلى الشمال من المدينة، تزين الخيام الزرقاء والبيضاء التلال الصخرية وبساتين الزيتون في المنطقة الحدودية.
وقد انتشرت مخيمات تضم آلاف العائلات النازحة منذ الأيام الأولى للحرب، وعلى مرّ السنين تحولت إلى مستوطنات سكنية مبنية من الخرسانة بمساعدة أجنبية انضم إليهم مئات الآلاف من الأشخاص خلال الأسابيع الستة الماضية، حيث قاموا بنصب الخيام بجانب الطرق، وبين الحجر الجيري الصخري المنبثق من قطاع مزدحم بالسكان على طول الحدود التركية. وهناك تؤوي المساجد والمدارس والمتاجر والمصانع الفارغة كثيراً من العائلات.
– مثل الكلاب الضالة
وحتى تلك المناطق غير آمنة، فقد هربت امرأة تدعى أم عبد الله من قريتها، منذ ثلاثة أشهر ولجأت مع أسرتها إلى مصنع للطوب القديم خارج بلدة معرة مصرين. ويوم الاثنين، كانت أم عبد الله تقوم بجمع الأعشاب مع اثنين من أطفالها، عندما سمعت صوتاً مثل الطيور ونظرت لترى صاروخين يسقطان من السماء باتجاهها. قالت: «لقد وضعتُ الأطفال على الأرض وغطيتهم بجسدي. يُقال إن استلقيتَ على الأرض لا تصيبك الشظايا». فقدت وعيها وأصيبت ابنتها البالغة من العمر 18 شهراً، لكن الثلاثة نجوا. وفي ملجأ للطوارئ بالقرب من الحدود التركية، تحدثت عالية عبراس (37 عاماً)، قائلة: «هل تعرف معنى النزوح؟»، وأجابت: «أن تصبح مثل الكلاب الضالة».
وقالت إن رجال الإنقاذ استغرقوا ساعتين ونصف الساعة لانتشالها هي وأطفالها الثلاثة من تحت أنقاض في منزلهم، في بلدة أريحا، قبل شهر. كان الوقت منتصف الليل، ولكنهم تركوا في الشارع بجانب منزلهم المدمر لأنه كان لا يزال هناك آخرون يتعين إنقاذهم. وقد أصيب الحي بأكمله حول المستشفى الرئيسي. وقالت: «قضينا يومين في الشارع حتى عثر علينا فريق الإنقاذ التابع لجمعية فيوليت»، ونقلتهم إلى الملجأ الذي يضم 45 عائلة في مركز للتسوق في بلدة سرمدا. قالت: «أتمنى لو أنني متّ تحت الأنقاض وأطفالي معي. لقد فقدنا كل شيء قضيت أنا وزوجي العمر في بناء بيتنا. ونحن نبدأ من الصفر الآن».
في مخيم «النصر»، نصب الوافدون الجدد خياماً على بعد أمتار قليلة من الجدار الخرساني المغطى بلفائف من الأسلاك الشائكة التي تحدد الحدود التركية. أربعة عائلات سكنوا خيمة واحدة أقيمت فوق الصرف الصحي الخاص بالمخيم. لم يكن لديهم خيار آخر، قالوا. خلف الخيمة، تجري مياه الصرف الصحي أسفل التل إلى بركة نتنة. وقالت هناء الميجان، وهي مزارعة وأم لسبعة أطفال: «لن يقبل بها غيرنا. ليس لدينا أموال للبناء». شُرّدت الأسرة مرتين ووقعت في ديون كبيرة بسبب انعدام العمل. قالت: «نحن أقل من الصفر»، قالتها وأنَّبها زوجها. هذه المرة اختاروا العيش على بعد 100 قدم من الجدار الحدودي. سألتُها: «ألا تخشون أن يتعرض المكان للقصف هذه المرة أيضاً؟ هزت رأسها، وأشارت إلى التل المقابل، قائلة: «هنا تركيا».
المصدر: الشرق الاوسط