ابتسام تريسي روائية سورية متميزة، قرأت أغلب إصداراتها الروائية، تنتمي للثورة السورية، وحق الشعب السوري بالكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية، وإسقاط النظام المستبد المجرم. وثّقت برواياتها الواقع السوري قبل الثورة وبعدها والمراحل التي مرت بها.
في رواية سلّم إلى السماء تتابع الكاتبة رصد تبعيات الأعمال القتالية الوحشية للنظام على الشعب السوري، الذي عاش تحت القصف والقتل واضطرّ الى اللجوء داخل سورية والى خارجها ايضا، حفاظا على الحياة. تعتمد الرواية على المتابعة بلغة المتكلم على لسان هيفين الشخصية المحورية في الرواية، لا ضابط في السرد، زمانا ومكانا وأحداث، هي تداعيات في عقل ونفس هيفين، مقترنة مع الحياة التي عاشتها، في طفولتها، ومراهقتها، والحب الذي عاشته مع بدر رفيق طفولتها وشبابها، حياتها الزوجية في جدّة السعودية، مع زوج لا يحبها ولا تحبه، ويعاملها بقسوة تصل إلى درجة العنف الجسدي، ترصد الحياة القاسية التي عاشتها، وطلاقها وعودتها إلى سورية، كذلك زواج حبيبها بدر وانقطاعهما عن بعضهما سنوات طويلة. لقائهما ببعضهما مجددا بعد الثورة السورية، هي تفكر به، وهو لم ينسها…الخ.
كل ذلك نجمعه من ثنايا الرواية، الذي يتداخل فيها الزمان والمكان والمعاش والمتخيل، في بعثرة مدروسة للأحداث والحالات تجعل القارئ حاضرا في إعادة رسم لوحة الرواية لتكتمل في ذهنه مع ختامها.
نحن أمام قصة حب بامتياز، الحب هو الحدث الأساسي في الرواية، والباقي كله تفاصيل وهوامش.
هيفين فتاة ولدت مع موهبة الرسم وحب الالوان، صديق طفولتها بدر عايشها دائما وهي تكبر وهي تمشي في طريق تنمية موهبتها في الرسم، وتكبر لتدخل في المراهقة، وليكبر بدر معها، يعيشا علاقة حب مفتوحة على آمال مستقبلية كبيرة. لكن المستقبل لم يكن كما تمنّيا. قُتلت لينا أخت هيفين، لينا متزوجة، قتلها حبيبها السابق، الذي كان قد أخبرها أنها لن تكون إلّا له. وكان على هيفين أن تميت حلمها بالزواج من بدر، فقد أجبرتها العائلة بالزواج من زوج أختها، لتحافظ على أولاد أختها المقتولة. كذلك تزوج بدر من امرأة أخرى إدّعى أنه يحبها، وابتعدا عن بعضهما لسنوات طويلة.
لم يكن زوج هيفين رحيما بها ابدا، فقد كانت بالنسبة له بديلا ناقصا لأختها التي أحبها، ولم يكن متقبلا لموهبتها الفنيّة، ينتقم منها بتحطيم لوحاتها، وإتلاف ألوانها، خاصة عندما تنجح في أي عمل فني أو معرض يقام حيث هي وهو يعيشان، غادرت هيفين مع زوجها الى جدّة في السعودية حيث يعمل زوجها، حياتها تزداد سوءاً ومعاملته قساوة، تارة يشجعها لترسم لتبيع لوحاتها ويأخذ أثمانها، وتارة يغار من نجاحها فيحطم لوحاتها ويرمي بألوانها. لم تستطع الصبر على ذلك، فبعد مضي سنوات طلبت الطلاق منه، وحصلت عليه بمساعدة السفير الفرنسي الذي زار أحد معارضها في جدّة وأعجب بفنّها. عادت إلى سورية، متحررة من زواج كان بمثابة جحيم تعيشه دوما. في سورية التي عاشت ثورتها وانتفض شعبها، وقرر النظام أن يقتل حلم الشعب ولو قتل الناس كلهم وشرّدهم ودمر البلاد فوقهم. وجدت هيفين نفسها كما ملايين السوريين تهرب من بلدتها الى الحدود التركية هاربة من الموت، تريد مغادرة سورية الى تركيا، ومن هناك إن أمكن إلى إحدى الدول الأوروبية. ستحكي لنا هيفين عن الهروب من الموت من عنف النظام، واستغلال المهربين لحاجة الناس للعبور الى الأمان في تركيا، المال الذي يُدفع، الجنود الأتراك ومراقبة الحدود، الدخول الى تركيا، والانتقال بين مدنها للوصول إلى اسطنبول.
كل ذلك تحكيه هيفين وهي مسكونة باسترجاع حبها لبدر والتفكير به، خاصة أنهما التقيا مجددا عبر الفيسبوك، وعادت نار الحب تتوقد في نفسيهما، كان هو مازال في الداخل السوري، وهي غادرت الى تركيا، لم يكن بعد قد قرر أن يترك سورية، لكنه وصل لذلك القرار بعد أن دُمّر بيته وأصبحت حياته في الداخل مستحيلة. قرر أن يلتحق بهيفين ويتابعا معا حياة اللجوء.
كانت هيفين قد تحدثت عن عودة لها الى الداخل السوري، وذهابها الى أحد الجبال وعيشها هناك لفترة، ولقائها بزاهد يعيش هناك وحيدا متوحدا مع الطبيعة. ولم نتأكد هل عاشت هذه التجربة فعلا أم في خيالها؟!.
كما أنها تروي أنها تواصلت مع بدر وعاشا علاقة جسدية، أشبعا حاجتهما لهذا الوصال الذي يحتاجانه منذ زمن بعيد، وأنه كان قد اكتشف أنه مصاب بالسرطان وأنه سيموت قريبا، وأنه أوصى أن تحرق جثته وتوضع في فخارة وتهدى لحبيبته هيفين، ويشاع أنه دفن في قبر خال. وهذه كذلك قد تكون من تهيآت هيفين.
تابعت هيفين تواصلها مع بدر والتقيا في تركيا، بعد لجوئهما سوية إليها. أعادا إحياء حب حلما به بعد أن أضاعا عشرين عاما؛ هي وهو بزواج لم يكن مقنعا لأي منهما، كانا متسامحين مع أخطائهما، وقررا أن يعوّضا الماضي بمستقبل يعيشانه في بلاد اللجوء. انتقلا الى الحدود التركية اليونانية لأجل ذلك، تواصلا مع المهربين ودفعوا لهم المال وانتظروا حتى يحضروا القوارب المطاطية “البلم” حملوه أكثر مما يحتمل ودفعوا في البحر كان القارب متهالكا، قطع جزءاً من المسافة، ثم توقف بسبب انعدام الوقود، بدأ البحر يتقاذفهم، غرق القارب، وغرق أغلب من كان عليه، أضاعت بدر، لم تعلم هل غرق أم نجى؟، جاء من ساعدها، كان سوريا اعتقدت أنها تعرفه ولكن لم تذكر، لكنه سيعترف لها بأنه حبيب أختها السابق، الذي اُتهم بقتلها، لكنه لم يقتلها هو بل القاتل زوجها، الذي قتل أختها ليتزوجها هو ويحرمها من حبيبها بدر، رغم أنه لا يحبها وعاملها بشكل سيء وجعل حياتها جحيما؟!، اعترف لها هذا الرجل أنه قبض المال من زوجها ليعترف بقتل أختها حبيبته السابقة، وأنه أنقذها من الغرق، وكأنه يحاول ارضاء ضميره بعد مضي كل هذه السنين على جريمة زوجها بحق أختها، وعيشها حياة الجحيم معه. لم يستطع أن ينقذ بدر. وصلت إلى اليونان ومنها انتقلت الى مقدونيا وأوكرانيا وكانت محطتها الأخيرة في ألمانيا، كانت رحلتهم محفوفة بالمخاطر والاستغلال والامتهان، خفف التعامل الإنساني الذي لاقوه من السكان الأصليين بعضا من معاناتهم. عاملتهم اليونان وكأنهم أعداء خاصة قبل وصولهم إلى الشاطئ ، حيث حاولت إغراق قاربهم، أطلقت عليهم النار، أصيب البعض وغرق المركب ومات البعض، وأنقذتهم الشرطة التركية،. كان ذلك في محاولتهم الأولى للعبور لليونان.
في ألمانيا سكنت مع امرأة أخرى، وبدأت تتعلم اللغة، وانتظرت لتحصل على الإقامة، قدموا لها ما تعيش به محافظة على كرامتها الانسانية.
تنتهي الرواية هنا. رغم أن لها أكثر من مسار ومن نهاية، يختلط الواقع مع التخيل عند هيفين. حبيبها بدر هل مات بالسرطان ووضع رماد جثته المحروقة في فخّارة وأُعطيت لها، واحتفظت بها من أعين المحيطين حولها، وتركتها خلفها عندما غادرت البلدة أثناء هروبها من البلدة بعدما قرر النظام قتل الناس وتدمير البلاد. أم التقيا مجددا في تركيا وعاشا سوية بعض الوقت، وقررا اللجوء سوية، وغرق هو واستطاعت هي الوصول بعد أن وجد من ينقذها. هل عادت الى سورية فعلا؟ . والتقت بشيخ الجبل أم لا.؟…الخ…
في تحليل الرواية نقول:
إننا أمام رواية مختلفة لابتسام تريسي، فهي رواية موغلة في ذاتية بطلتها هيفين، والحدث الوحيد المسيطر على مسار الرواية، هو الحب بين هيفين وبدر، هذا الحب الذي نراه، رغم هيمنته عليهما، لكنهما لم يحافظا عليه ابدا، هي تزوجت مرغمة من زوج أختها المقتولة وعاشت في ظروف مأساوية مع زوجها، أما بدر فقد تزوج من أخرى، لعله يحبها؟ !!.
أما الخلفية الحياتية لما تعيشه هيفين وبدر فقد ظهرت باهتة جدا، إنها الحرب في سورية وعلى شعبها، نراها ظاهرة عبر منعكسها على حياة هيفين، في هروبها واستغلال المهربين لها، ومحاولة اغتصابها على الحدود، من مسلح سكّير؟ !!. وبدر يعيش في الداخل مستسلما لظروف الحرب، يقرر الخروج من سورية واللجوء عندما يدمر بيته. لقد ظهر الواقع المأساوي لما يعيشه السوريين، وكأنه قدر لا راد له، وبديهية لا يحتاج لشرح أو تبرير أو توضيح.
كما أننا نتوقف أمام تداخل الحقيقي في أحداث الرواية بالمتخيل، الى درجة أننا نتوه، بين الحقيقي والمتخيل. هل ذلك اشارة مقصودة من ابتسام تريسي؟. لتقول أن ما نعيشه قد تجاوز الخيال، وأننا متروكين لذئاب العصر بحيث اُصبنا ببعض اختلال عقلي ونفسي وأصبحنا نخلط بين الوهم والمتخيل والواقع؛ الذي نحتاج أن نهرب منه.
ثم ماقصة التعلق بالحب وإهمال كل شيء غيره عند هيفين وبدر؟. هل هو انتصار لحق الإنسان أن يعيش حياة سوية، بكرامة وأمان وكفاية؟ . هل الحب هنا هو خط دفاع وجودي عن أسمى ما في وجود الإنسان، إنه الوجود الإنساني ذاته عبر علاقة حب بين انسانة وانسان متحدّين كل ظروف الهدر المجتمعي، ومن النظام المجرم، والعالم الصامت عن جريمة قتل وتشريد شعب كامل…الرواية ممتلئة عبر ومعاني، وتحتاج لقراءات متعددة تنظر إليها بأبعادها المختلفة.