تتقاطع معطيات عدة، بينها معلومات حصلت عليها “العربي الجديد” من مصدر أميركي، لتشير إلى وجود ما يمكن تسميته بعملية “جس نبض” بين النظام السوري وإسرائيل. ووفقاً للمعلومات، فإن مركز التحركات، جغرافياً، يقع في الإمارات التي أشهرت أخيراً تحالفها الذي بات أقرب للاندماج مع إسرائيل، وتتولى قيادة حلفائها و/أو وكلائها في الدول العربية للسير في قطار التطبيع. لكن من الواضح أيضاً أن أبوظبي ليست الفاعل الوحيد على خط التحركات للتوفيق بين إسرائيل ونظام بشار الأسد، في طريقٍ قد يصل لاحقاً إلى تطبيع العلاقات بشكل كامل، أو محطة متقدمة قبل ذلك، خصوصاً في ظل تأكيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أول من أمس الجمعة، عقب إعلان الاتفاق على انضمام السودان إلى التطبيع، أن هناك 5 دول عربية جديدة تريد السير على النهج نفسه.
وأوضح مصدر من وزارة الخارجية الأميركية، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنّ واشنطن أعطت الضوء الأخضر لبدء مرحلة من “جس النبض” بين النظام السوري وإسرائيل لتطبيع العلاقات بينهما. وأشار إلى أن تبادل وجهات النظر بين الطرفين بدأ فعلاً، من دون أن يكون المصدر متأكداً من أن لقاءات حدثت بشكل مباشر أو أنها لا تزال في إطار تبادل وجهات بشكل غير مباشر، عن طريق وسطاء.
وألمح المصدر إلى أن المباركة الأميركية لبدء هذه التحركات جاءت بعد تفاهم روسي ــ أميركي، إذ تجهد موسكو لإعطاء مزيد من الفرص للنظام ليكون مقبولاً أمام المجتمع الدولي من جديد. وأوضح المصدر أن للإمارات دوراً في ترغيب الولايات المتحدة بقبول دخول النظام وإسرائيل في طريق المفاوضات، مضيفاً أنه قد يكون لأبوظبي دور مباشر عبر الوساطة في المفاوضات غير المباشرة، خلال المرحلة الأولى.
وأضاف المصدر الأميركي أن الإمارات تسعى لرفع “الفيتو” الأميركي حول إعادة النظام لعلاقاته مع بعض الدول العربية بعد قطعها على خلفية اندلاع الثورة عام 2011. وترغب في ذلك لكسر العزلة عن النظام بشكل تدريجي، تمهيداً لبدء مرحلة إعادة الإعمار التي تحضّر أبوظبي نفسها لدور مهم فيها بإدخال شركاتها إلى سورية. وأشار المصدر إلى أن الإمارات حاولت قبل أعوام عدة الدخول على خط إعادة الإعمار، بإقناع الولايات المتحدة وحلفائها ببدئها تمهيداً للدخول إلى سورية. لكنها اصطدمت بتعاظم حدة العقوبات الغربية والأميركية على الأسد ونظامه، وتشديد لهجة واشنطن تجاه الراغبين بإعادة العلاقات الكاملة مع دمشق، ولا سيما المشاركة بعملية إعادة الإعمار، التي تضع واشنطن أمامها خطاً أحمر، قبل إنجاز التسوية السياسية.
وأشار المصدر إلى أن واشنطن لا تزال تراقب هذه التحركات من بعيد لترى ما سينتج عنها وكيفية تعاطي النظام معها، مؤكداً أن بلاده وعلى الرغم من ذلك، لن تتخلى عن رؤيتها بإنجاز التسوية السياسية في سورية وفقاً للقرار 2254 والمرجعيات الدولية، وضرورة انخراط النظام بمسارات الحل السياسي الأممية. واستبعد تخلي واشنطن عن هذا الشرط مهما كانت المغريات الأخرى. وأكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو يوم الخميس الماضي، هذا الشرط، بقوله إن بلاده لن تغير سياستها تجاه السلطات السورية لتأمين إفراجها عن الصحافي أوستن تايس، والأميركيين الآخرين المحتجزين لديها، وذلك خلال مؤتمر صحافي رداً على سؤال يتعلق بزيارة سرية لنائب مساعد الرئيس الأميركي كاش باتيل إلى دمشق، لإنجاز استعادة الرهائن الأميركيين لدى النظام.
بدورها، كشفت مصادر مقربة من النظام داخل دمشق، أن وفداً من النظام قصد أبوظبي مطلع الشهر الحالي، بهدف استخدام العلاقات بين النظام والإمارات للتأثير على واشنطن ودفعها لتخفيف حدة العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر” وغيرها من العقوبات الاقتصادية. غير أن الوفد المؤلف من ضابطين وإعلامية، عُرض عليه مناقشة مسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل من دون معرفة الأجوبة التي أعطوها. مع العلم أن “العربي الجديد” لم تتمكن من التحقق بشكل منفصل من صحة معلومات زيارة هذا الوفد إلى أبوظبي.
في غضون ذلك، أكد مصدر روسي لـ”العربي الجديد” دعم موسكو لأي جهد للتسوية بين السوريين والإسرائيليين، لكنه نفى مشاركة روسيا في ترتيب أي اجتماعات بين الطرفين في الإمارات. لكن المصدر المقرب من الخارجية الروسية لم يستبعد عقد مثل هكذا اجتماع برعاية إماراتية أميركية. وأكد المصدر أن “روسيا تُرحّب وتدعم أي جهد من أجل أن تكون هناك تسوية بين السوريين والإسرائيليين”، لكنها “تفضّل أن يكون لها خطها المستقل”. ولفت إلى أن بلاده “تستطيع تنظيم اللقاء في موسكو أو حتى في سورية أو إسرائيل”، متسائلاً: “لماذا نختار الإمارات لتنظيم اللقاء، ونحن نملك القدرة على رعايته وحدنا؟”. ومع إشارة المصدر الروسي إلى أنه “ليس سراً أننا نؤكد دائماً على أمن إسرائيل التي كانت طرفاً خفياً في اتفاقات الجنوب السوري، وراعينا أمنها. وأعدنا الهدوء في جبهة الجولان منذ منتصف 2018 إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل عام 2011، باستثناء الرسائل بين إيران وحزب الله والإسرائيليين، والتي تراجعت وتيرتها وإلى تراجع أكبر أو انتهاء”. بالتالي فإن موسكو “لا تعتقد أن التسوية مع سورية تعد أولوية إسرائيلية في الوقت الراهن، كما أنه لن يشكل مفتاحاً سحرياً لحل المشاكل الاقتصادية والمعيشية في سورية”.
وخلص مصدر آخر مطلع على تطورات الملف السوري في موسكو، تحدث لـ”العربي الجديد”، إلى أنه “إذا كان ثمة لقاء عُقد في الإمارات، فهو على الأرجح جاء في إطار سعي النظام للتخفيف من ضغوطنا (روسيا) عليه للدفع بالتسوية السياسية، لأنه كما معظم العرب يظنون أن إسرائيل هي مفتاح الهروب من مشاكلهم والتقرب من أميركا والعالم”.
وأوضح المصدر أن “موسكو لا تعارض، بل تشجع فتح مسار تفاوض بين الحكومة السورية وإسرائيل، ولكن ليس على أساس الهروب من استحقاقات التسوية السياسية للأزمة السورية، عبر مغازلة هذا الطرف أو ذاك”. ولفت إلى أن “لدى روسيا شبه قناعة بإمكانية تجاوب النظام مع أي وساطة مع إسرائيل”، مشدّداً على أن بلاده “لا ترغب في استفراد الولايات المتحدة برعاية مفاوضات بين السلطات السورية وإسرائيل”. ونوّه المصدر إلى أن موسكو شجعت في السابق على انفتاح بلدان الخليج العربي، ولكن ليس على حساب إيران وتركيا الشريكتين “الصعبتين” في أستانة. وشكك في أن إيران يمكن أن تتقبل في الظروف الحالية إقدام النظام على فتح قنوات مع إسرائيل، لا سيما عن طريق الإمارات، التي أعلنت بوضوح على لسان أكثر من مسؤول أن هدف عودة العلاقات مع النظام، وتحركاتهم شرقي الفرات هو منع تمدد إيران وردع تركيا.
مع العلم أن روسيا اختبرت النظام السوري في التعامل مع إسرائيل، حين أرغمته العام الماضي على تسليم رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل الذي قتل في لبنان عام 1982 وكان مدفوناً في محيط دمشق، بالإضافة لتسليم تل أبيب ساعة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي أعدم عام 1965 في دمشق. وتشير معلومات “العربي الجديد” إلى أن الجنود الروس يجهدون في نبش مقابر حول العاصمة دمشق، لا سيما في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، للبحث عن رفات جنديين آخرين قُتلا مع باومل في ذات المعارك لتسليمهما لإسرائيل كذلك. في المقابل، تُعدّ الصفقة الكبرى حين سيتمكن الأسد من معرفة مكان دفن الجاسوس كوهين، بغرض قبض ثمن رفاته أرباحاً سياسية كبيرة.
يُذكر أن الأسد نفى في مقابلة أخيرة مع وكالة “سيغودنيا” الروسية وجود أي مفاوضات مع إسرائيل، إلا أنه ربط إقامة علاقات سلام معها باسترداد الحقوق والأرض السورية، من دون التطرق للقضية الفلسطينية على غير عادته، في رسالة إلى أنه عندما يحين وقت المفاوضات، فإن أمره سيكون في يده في الجزء الذي يستطيع المناورة فيه من الأراضي التي تحتلها إسرائيل، من دون أن يكون لأي طرف آخر شراكة في القرار. بيد أن المؤشر الأبرز يكمن في عدم إدانة الأسد والنظام لعمليتي التطبيع الأخيرتين لكل من البحرين والإمارات مع إسرائيل، وترك الإدانة غير رسمية، ومن دون تسويق إعلامي لـ”حزب البعث”، الحاكم شكلياً للبلاد، عبر بيان غير رسمي ومن دون أي توقيع. وتلك الإدانة طاولت البحرين وتجنبت ذكر الإمارات، وكلتا الدولتين أعادتا افتتاح سفارتيهما في دمشق نهاية 2018.
كذلك فإن إعادة تعيين سلطنة عمان سفيراً لها في دمشق كأول دولة خليجية تعيد تعيين السفير، منذ أن سحبت دول مجلس التعاون الخليجي سفراءها على خلفية تصاعد القبضة الأمنية في التعامل مع المتظاهرين، يمكن إدخاله في حساب المؤشرات، نظراً للدور التاريخي الذي تلعبه السلطنة كوسيط خفي في الأزمات الإقليمية ولعلاقاتها الجيدة كذلك مع تل أبيب. ولا شك أن وجود سفارة لها في دمشق، إلى جانب كل من البحرين والإمارات اللتين باتت علاقتيهما مع تل أبيب رسمية، أمر له دلالاته في ميزان السياسة عند الحديث عن إمكانية تطبيع العلاقات بين النظام وإسرائيل.
وتدرك واشنطن صعوبة عودة النظام السوري ليكون جزءاً من المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي، بشكله الحالي على الأقل، إلا أن السياسيين الأميركيين باتوا أخيراً يلمحون إلى إمكانية قبول النظام في حال إقدامه على إصلاح ذاته. وقبل ذلك قبوله بالانخراط بالتسوية السياسية للنزاع السوري من وجهة النظر الغربية، التي تتطابق مع المعايير الأممية إلى حد كبير. وما يخفض السقف الأميركي حيال النظام في هذا الجانب هو التحولات الميدانية على الأرض، لا سيما منذ التدخل الروسي واستعادة النظام لمساحات واسعة كان قد خسرها قبل التدخل، وانتشار تنظيم “داعش” وهزيمته ومن ثم ظهور جيوب له مرة أخرى. وعلى الرغم من ذلك هناك سقف آخر مرتفع تمثله العقوبات الغربية والأميركية وآخرها العقوبات الأثقل بموجب “قانون قيصر”، ربما عملاً بمبدأ الترغيب والترهيب مع النظام، بعدما بات واضحاً ترجيح كفة القائلين بالحل السياسي للصراع في سورية داخل الإدارة الأميركية على الراغبين بالحل العسكري. ومن هؤلاء الرئيس دونالد ترامب الذي بات مشغولاً بالانتخابات والتحضير لها لمواجهة منافسه الديمقراطي جو بايدن في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وعند الحديث عن التطبيع بين إسرائيل والنظام، سيكون السؤال هل النظام مستعد أو جدي للمضي جدياً في هذا المسار وعدم استخدامه على الدوام، كملجأ لتخفيف الاحتقان عليه جراء الأزمات المتعاقبة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وإلى اليوم؟ ربما الإجابة تكمن في أن الأسد يحصي حالياً الأثمان التي سيجنيها في حال التقارب مع إسرائيل كما تريد الولايات المتحدة. وأهم ما في الأمر، إعادة تعويم نفسه والوعود المؤكدة بالسماح لعدد من الدول بإعادة علاقتها معه لكسر عزلته، التي باتت تؤثر عليه اقتصادياً بشكل كبير جداً مع تزايد عقوبات “قيصر” في حدتها. كما ارتفعت احتمالات فلتان الأوضاع الداخلية من قبضة يد الأسد في ظل الاستياء الشعبي في مناطق سيطرته جراء الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، مع وضوح بعدم الرغبة من حلفائه في تقديم مزيد من الدعم لحل المشاكل الاقتصادية، وهذا ما أوضحته الأزمة الأخيرة.
المصدر: العربي الجديد