كأنه بات خارج السلطة وخارج السياسة. للمرة الاولى منذ 32 عاماً، يثير الجنرال ميشال عون الحزن، الشفقة، والعطف. كأنه أسكت مدافعه، وكتم صراخه، وحصر دوره بالتوجيه والارشاد.. بعدما ظل يصنف نفسه مخلّصاً للبنان وحامياً للمسيحيين.
قرر الجنرال فجأة، ومن دون أن يعترف بتقدم العمر، أن ينزوي في القصر الرئاسي، ليرتاح في شيخوخته، ويرمي أسلحة معركة التوريث، التي خاضها بضراوة شديدة، وصلت حد استحضار ذكريات الحرب الاهلية ورموزها وصورها، ويكتفي بالاحتكام مرة أخيرة الى ضمائر الآخرين وحسهم الوطني.. مع علمه المسبق ان هؤلاء هم الذين خانوه وخذلوه وطعنوه في الظهر، لكنه لم يتخل يوماً عن التحالف معهم.
جاهر الجنرال بأنه وصل الى نهاية الطريق. وأقر بأنه لم يعد يتمتع بالقدرة على القتال. اتهم الدستور بتكبيله، مع أن “الآخرين” ، المسلمين منهم بشكل خاص، كانوا مستعدين لتعديله وإزالة المظالم عن موقع رئاسة الجمهورية وصلاحياته ، لو أنه تصرف كرئيس فعلي ، لا كصاحب مصلحة وحصة .. ولا كمرشد لوريث محدود الكفاءة والخبرة، لم يترك خطأ إلا وأرتكبه، ولم يترك عصبية إلا وأثارها.
كانت كلمته الاخيرة الى اللبنانيين، دليلاً إضافياً على سؤ التقدير والتدبير، بل على قلة الدراية السياسية، بشؤون الغابة اللبنانية وشريعتها، التي لم يكن يوماً غريباً عنها.. بل كان شريكاً في تخطيط الحدود والتحالفات والصراعات بين حيواناتها السياسية المتنوعة. حتى قيل فيه أن برغماتيته ليست سوى قناع يخفي انتهازيته، التي قدم عليها أكثر من دليل طوال السنوات ال 15 الماضية خاصة.
لم يكن مضطراً لهذا البوح بالعجز والفشل، فقط من أجل عرقلة وصول شريك سابق، محدود الكفاءة والخبرة أيضاً، الى رئاسة الحكومة. لم يلاحظ أنه في ذلك إنما كان يستخدم سلاحاً محرماً وأنه كان يقصف بالمنصب الرئاسي نفسه. كان يرمي قذائفه الاخيرة، قبل ان يرفع الراية البيضاء، في ظرف بالغ الحرج والخطر.
كانت الكلمة أشبه برسالة الوداع، التي لم ينقصها سوى الاستقالة، او على الاقل التهديد بها. كانت تلك هي الخاتمة الطبيعية والمنطقية لذلك النص المحزن، وثيقة الاعتراف بالهزيمة المطلقة. ثمة من يقول إن الجنرال ما زال قادرا على العرقلة وربما التعطيل، لكن الأوان قد فات. والسنتان المتبقيتان من عمر عهده، لا تسمحان بهذا الترف، ولا تبيحان تمديد هذا الارث، إرث الفراغ في السلطة الذي كان هو شخصيا وحلفاؤه الاقوياء، مصدره الأول وسبب طول مدته الكارثية.
الرئيس المكلف بترؤس الحكومة المقبلة، لن يأتي على حصان أبيض مصحوباً بالتأييد الخارجي، الدولي او العربي المزعوم. هو آت فقط لأن الخارج ضاق ذرعاً بالعهد وبالسلطة وبالسياسة في لبنان. هو يريد أي حكومة، أي رئيس وأي وزراء، حتى ولو كانوا جميعاً من المرتكبين.. لكي لا ينفجر البلد من الداخل، ولكي لا تتوسع الهجرة اللبنانية وتاليا السورية والفلسطينية، ولكي لا تزول الحدود الدولية.
رفع الجنرال راية الاستسلام، أمام طبقة سياسية متوحشة، لا يمكنه ان يدعي أنه كان خارجها، فقط لأنه كان يقاتلها حيناً ويهادنها أحياناً ويتحالف مع أسوأ رموزها. سلاح الإصلاح والتغيير الذي شهره كان صدئاً. لم يقنع أحداً بان التيار العوني هو جمعٌ من الاشراف، بل فقط أقل فساداً من الآخرين، نسبياً. وهو بالتالي لن يصمد طويلاً، وربما لن يبقى حتى نهاية العهد بعد عامين، عندما يتأكد العونيون ان معركة التوريث كانت مدمّرة.
خلاصة محزنة فعلاً. كان البلد ولا يزال بحاجة الى رئاسة جمهورية حكيمة، لا تدعي القوة ولا تمثل الضعف. تكون قادرة أولاً على ان تستوعب خلافات المسيحيين وصراعاتهم، لا أن تسهم في تفجيرها في كل مناسبة، وتكون مؤهلة لان تحتوي فتن المسلمين وجنونهم وظنونهم وحصصهم التي لا تنتهي تحتمل القسمة ولا التوزيع.
انكسار الرئيس، والرئاسة على هذا النحو، خسارة عامة بلا شك، بغض النظر عن مسؤولية الجنرال أو تياره أو بيئته. وهي تكاد تبدو الآن وكأنها عقوبة دولية إضافية بديلة، تفرض على لبنان كله من دون استثناء.
المصدر: المدن