السوري الذي أنتجه الأسد ليصبح مرتزقاً

أدهم حنا

بعيداً من القمع الاجتماعي والسياسي الذي عاينه السوري ضمن نظام التخلف الأسدي لخمسين سنة، والبيئة الاجتماعية الدينية القروسطية التي تماهت مع التثكين العسكري للفرد السوري الذي فرضه النظام، فإن العنف الناتج عن الحرب واستمراره على السوريين، وتبعات الانحطاط الاقتصادي للبلد المهمش، جعلت النظام مسوقاً جيداً لإنسان سوري بائس ومحطم، جديد بتحدياته، يُمكن تحويله بطريقة أخرى إلى مكنة اقتصادية ما بعد حداثية. وإن كانت الحداثة قامت، حسب فوكو، على تمكين الاقتصاد من الفرد وضبطه ليبدو كياناً اقتصادياً منتجاً للسلطة، لكي ينتظم في خدمتها، فإن النظام السوري يواكب موجة عالمية أكثر جِدة، أكثر قدرة على تفعيل الفرد المقهور والمهان كفرد منتج اقتصادياً ورخيص في آن واحد. وإن كانت داعش والنصرة -كحركات ما بعد حداثية – نوعاً احتجاجياً، إيديولوجياً لإنسان يحتج بالتمسك بقيمة أخلاقية إسلامية بوجه الدولة المتضخمة، والتي تخلو من أي وجه عقلاني أو أخلاقي أو عادل. فإن النظام السوري التقط التقنية ذاتها، وخلق نوعاً جديداً من البشر، ليبني عليه اقتصاداً منتجاً ومربحاً، لكن دون أي قيمة سوى قيمة العصابات والمرتزقة.

عندما فقد النظام مصادر تغذية عنفه، وأصبح بحاجة لثقافة عنيفة جديدة لضبط السوريين، جاء الدور الإيراني والتركي والروسي في تطوير العنف العمومي وتنميطه. فحسمت القضية السورية، وتم تقسيمها استراتيجياً، وتسليم رقبة السوريين العاديين المفيدين لإدارة سلطة الأسد وقواته الأمنية، وافتقد الفرد السوري لمقوم الحيونة الإنسانية في إشباع الجوع أو أدنى درجات الأمان الغذائي والصحي والحياتي، من دون أن يتمكن من تحقيق أي فعل يحقق فيه ذاته أو يُفعل حقوقه.

خُلق هنا مبدأ مردودية جديد، نضج داخل الفرد المقموع، وأصبح من الممكن استغلاله. فبدلاً من ارتكاب الجريمة، وتحويل الكبت السياسي والاقتصادي إلى عنف اجتماعي يحوَّر فيه القمع العام إلى فعل عدائي يصيب الذات أو أقاربها، لجأ السوريون من الذكور إلى الانتماء للسلطة ذاتها، عشرات الميليشيات التي انتسب لها السوريون حتى من معارضي النظام، ليحملوا سلاحاً ويأخذوا راتباً ويتماهوا مع الشكل القهري وثقافته.

تحولت سوريا إلى بلد مسلح اجتماعياً، وانساب نظام اجتماعي سياسي قائم على خلق الشخصنة والوجود باستخدام السلاح فقط، أو الانتماء لرمزية عنفية قهرية يرضاها النظام ويشجعها. لكن هذا لم يبقَ مفيداً لوقت طويل، فالوصول الروسي ورضوخ الفئة الأكبر لآلة القمع، أجبر النظام على سحب السلاح من الميليشيات وتقنينه داخل الجيش، وداخل الميليشيات الإيرانية، ما أعاد آلاف الشبان إلى الحياد والبرود. افتُقدت مصادر القيمة التي كان يعممها النظام بحمل السلاح لصالحه والانتساب لعنفه.

لم يعد يلزم النظام حاملي السلاح المهووسين بتأكيد أنفسهم بإبدال قضيبهم بالسلاح. التسلط الذكوري العنيف عاد إلى المجتمع ليزيد الجريمة، التي لم يعد يحصيها النظام ما لم تكن تشكل فضيحة وتُنشر عبر وسائل التواصل. تلقف الروس والإيرانيون ما أنتجه النظام لهم من جيل سوري مكبوت ومقموع إلى الحد الذي يحتاج فيه كدرهم إلى تخفيف. فكان الصيد أن يصل السوري إليهم عنيفاً وجاهزاً من أجل مالٍ يكفل شروطاً أدنى من شروط حيونة الإنسان. كان هذا شراءً للنفوس السورية المقهورة التي فقدت أي قضية لها. فالنظام اكتفى بتدمير البلاد وتنميط سكانها. واستبيحت أية قيمة معارضة أو رافضة له أو حتى أي أمل بمستقبل أفضل.

استهلاك تاريخية القمع لدى الفرد، بدأ باستخدام اللاجئين والمقاتلين تحت اليد الإيرانية، ولحق بها سريعاً الاكتشاف الروسي للذات السورية المحطمة التي تملك خللاً كبتياً جنسياً وعنفياً، وتجاورهما في السلوكية النفسية الفردية حسب فرويد يشكلاً كدراً هائلاً يمكن تحويله وتحريضه ليُزاح. إزاحة كدر القلق وانتفاء غريزة الحياة، وارتفاع العدوانية تم تسويقه أوروبياً وأميركياً حسب ماركيوزه، عبر بيوت الدعارة المرخصة، وميليشيات الارتزاق، ذلك لتخفيف التصعيد النفسي لدى المواطن الأوروبي المقموع (بعنف خفيف) حسب وصف ماركيوزه نفسه وإيجاد مكمن تفريغي للعنف أو الرغبة الجنسية بدلاً من أن يُغير طبيعته بالتصعيد، أو يُفعل من دون رقابة ويحطم المجتمع بالجريمة والعنف.

فما المانع من تسويق القهر السوري إذاً وإراحة النظام من العنف الفردي للذئاب السورية الجائعة؟ بدأت روسيا بإرسال السوري حتى إلى فنزويلا، وأرمينيا، وإلى أي مكان يصلح فيه فرد مقموع وعنيف وجاهز ليقتل ويقاتل، من دون أن يستطيع في بلاده نفسها إلا أن يتغذى مصدرياً بالقمع والقهر. السوري الذي لم يحكم أرضه منذ سبعة آلاف سنة، والذي تعرضت بلده لمختلف فرق الاحتلالات التي عرفتها المنطقة بات مرتزقاً غازياً، باحثاً عن حفرة ليطمر فيها جثثاً ويحمي رؤوس عصابات ومافيا دولية رديئة وساقطة أخلاقياً. يوماً بعد يوم، يموت السوريون في جبهات القتال العالمية المفتوحة، من ليبيا إلى أذربيجان وأرمينيا وصولاً لفنزويلا، حيث يتم تجنيدهم وإرسالهم عبر شركات مرتزقة داخل سوريا. راتب السوري المرتزق مُريح جداً، لإزالة كدر الخوف والقلق، وعتبة العنف التي لا يُمكن إخراجها أو تسويتها داخل بلادٍ تشتعل فيها النار من كل صوب، وتدفع السوريين إلى مطار حميميم العسكري الروسي، واللاجئين إلى ميليشيات ، ليوزعوا على العالم، باستعدادهم السخي للموت والقتل في آن واحد. ليست سوريا قضية عالمية لمأساة شعب فقط، بل لاستغلال أفقر أفرادها في موجة خلقتها الرأسمالية الحديثة لعلاج البشر بقتلهم وتفتيتهم وتدمير أي معنى لوجودهم الفاعل في بلدانهم. هذا كله لا يعني إلا أن الأسد بات منتجاً لأفراد مرضى إلى حد يصبح فيه العنف الذي مارسه اقتصاداً مُريحاً لإنتاج بشر يخففون آلامهم بموتهم. مع فائدة مثلى، أن عنف السوري متراكم إلى درجة أنه يبدو اليوم أخطر من أي فرد داخل منظمة كداعش أو النصرة، أنه صنع نظام الأسد وقهره الزائد وهذا أخطر من أي إيديولوجيا.

 

المصدر: المدن

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى