لم يكن إعلان رجل الأعمال السوري، فراس طلاس (نجل وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس)، عن قرب ولادة حزبه الجديد هو المفاجئ، وإنما المفاجئ، والصادم كذلك هو التعليق المرحّب الذي أطلقه معارضون سوريون، مثقفون وناشطون، بالإعلان. وهذا يثير أسئلةً بشأن المعايير الفكرية والسياسية التي تحكم فيها المعارضة السورية ونخبها الفكرية والسياسية على الأمور، والقيم الأخلاقية التي تحكم موقفها السياسي والاجتماعي.
تجسّدت المفاجأة في وصف إعلاميين ومعلقين سوريين معارضين فراس طلاس بالسياسي، وفي الحماس للإعلان عن حزب سياسي جديد، باعتباره فرصةً لتحريك الركود السياسي السوري، وفي تهليل بعضهم لليبرالية الحزب العتيد، من دون اعتبار لتاريخ الرجل وماضيه “التليد”، فماضي الشخص، أي شخص، بوصلة مرشدة لتصرّفه وقرينة أساسية على معرفة هدفه من تحرّكاته المستقبلية، ومن دون نظر في الشروط الموضوعية لولادة حزب سياسي ناجح وأساس فكري ناضج، ففراس طلاس ليس سياسيا، ولم يكن في أي يوم سياسيا. كان رجل أعمال من وسط النظام السوري وحاشيته المدللة التي امتصّت خيرات الدولة والمجتمع من خلال الاحتكار، أطلق عليه وصف “ملك السكر”، لاحتكاره استيراد هذه السلعة الشعبية التي تُستهلك بكميات كبيرة في سورية، والتطفّل على القطاع العام ونهبه، واستغلال النفوذ الذي حازته عائلته، في ضوء علاقتها بقيادة النظام بعد عام 1970، واستغلال موقع والده ودوره في السلطة، وزير دفاع من 1972 إلى 2004، لجني مكاسب مادّية بطرقٍ ملتوية وغير مشروعة. امتلك فراس طلاس ثروة ضخمة، كان ثاني أغنى رجلٍ في سورية بعد رامي مخلوف، وكان من رموز الفساد؛ كان من بين نافذين يحصلون على سمسرةٍ نسبتها 5% من قيمة الصفقات التي تدخل سورية للقطاعين العام والخاص. امتلك مجموعة “من أجل سوريا: ماس” الاقتصادية، أسسها عام 1984، ذات الأنشطة الواسعة والمتنوعة، بدءا من تحميص البن إلى إنتاج المعادن والأغذية المعلبة ومنتجات الألبان. كما حصل، عبر والده، على تعهد تأمين الملابس والأغذية والأدوية لجيش النظام. انضم في عام 2010 إلى المجموعة المالية “هيرميس” التي يديرها البنك الاستثماري المصري، وهو بنك استثماري في دول عربية يعمل في مجال البورصة، السندات المالية، إدارة السندات، الخدمات الاستثمارية، وأسس لها فرعا في سورية. أفادت التقارير بأن المجموعة المالية هيرميس سورية كانت شراكة بين المجموعة المالية هيرميس المصرية 70% وفراس طلاس 30%. أصبح رئيس الشركة في سورية. بالإضافة إلى ذلك كان الشريك المحلي لشركة “لافارج” الفرنسية للإسمنت، وعضو مجلس الإدارة في شركة “لافارج سوريا” للإسمنت، المسؤولة عن أكبر استثمار أجنبي في سورية قيمته 680 مليون دولار، قالت وكالة الأنباء الفرنسية إن مدير مصنع “لافارج”، برونو بيشو، كشف للمحققين الفرنسيين أن الشركة دفعت مبالغ لفراس طلاس، ما بين عامي 2008 – 2014، تراوحت ما بين 80 و100 ألف دولار شهريا، بغية حماية موظفيها، بلغت قيمة المبالغ المدفوعة حسب القضاء الفرنسي أكثر من 12 مليون يورو (بحدود 14.5 مليون دولار)، كان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إبان سيطرته على منطقة الجلبية (ريف حلب منطقة عين العرب/ كوباني)، حيث أقيم المصنع، يحصل على 20 ألف دولار شهريا. كما كان، طلاس، رئيسا لشركة تدمر- سوديك أيضا، وامتلك شركة تدمر للتطوير العقاري، وكان مديرها العام.
هذا هو فراس طلاس الذي يشرف على تأسيس حزب ليبرالي في سورية؛ فمن هم هؤلاء الذين قبلوا العمل معه في مشروعه السياسي، وقال عنهم “إنهم يشبهونه فكرا؛ ويشبهون سورية المستقبل”. وهل تسمح هذه الخلفية “المضيئة” بالتعاون مع شخص له كل هذه “المميزات” و”السجايا” الأخلاقية، وما هي الليبرالية “الحقيقية” التي قال “إن حزبه يحملها”، وهل ثمّة ليبرالية حقيقية وأخرى مزيفة، وهل يمتلك قدرة فكرية للتمييز بينهما، أم أنه، على عادة أصحاب رؤوس الأموال عندما ينخرطون في الشأن العام، يدفع أموالا لمن يكتب له بعض ما يعلنه من أفكار ومواقف؟
هنا المشكلة، وهنا يجب أن تبدأ المواقف؛ تتحدّد وتتمايز وتفرز. كيف يتم القفز على ماض بهذا السواد، ويتم التعاون مع شخصٍ له كل هذه “الفضائل”؛ وكيف يُقبل به ليس شريكا في حزب سياسي معارض، بل وفي موقع قيادي وتأسيسي من دون اعتبار لهذا الماضي “المشرّف” جدا. وهنا التذرّع بانشقاقه عن النظام غير مقبول، خصوصا أنه اكتفى بالإعتذار اللفظي، معلنا أنه كان في الجانب الخاطئ. أليس لما نجم عن وجوده في هذا الجانب الخاطئ من ويلاتٍ على الدولة والمجتمع قيمة، فيفرض على المعارضين السوريين القول لهذا الشخص: انشققت هذه قضية تخصك، وليس من حق أحد الاعتراض على قرارك الشخصي، لكن أن تتصرّف وكأنك عدت طاهرا من كل رجس فهذا ليس من حقك، وأن انشقاقك لا يغسل ماضيك، وأن صدق انشقاقك يحتاج برهانا، كأن تقبل مساءلتك عن ماضيك ومحاسبتك عن أفعالك، وتطهير مالك بإعادة ما نهبته لصندوق يخصّص لدعم النازحين والمهجّرين الذين تقطعت بهم السبل.
المؤلم أن هذا التعاطي مع المنشقّين كان موقفا عاما؛ تكرّر مع كل من انشق من رجالات النظام السوري. والأدهى أنه لم يكتف بالترحيب بالمنشقّين، بل سمح لهم بتقدّم الصفوف، وتجاوز كبار المعارضين والناشطين الميدانيين باحتلال المواقع القيادية في مؤسسات المعارضة. برّر بعضهم الترحيب بالمنشقّين بتشجيع الآخرين على الإنشقاق. قد تكون الفكرة وجيهةً، على أن لا تتعارض مع العدالة الانتقالية وضرورة إنصاف الضحايا ومحاسبة المنشقين على ما اقترفوه من جرائم وخطايا. وبرّر بعضهم احتلال المنشقين المواقع القيادية بالإستفادة من علاقاتهم وخبراتهم. مبرّر ساذج، لأن انشقاقه يفقده القدرة على توظيف شبكة علاقاته القديمة، لأنها ارتبطت بموقعه في النظام الذي يتيح لطرفي العلاقة تبادل المنافع. أما قضية الاستفادة من الخبرة فجوزة فارغة هي الأخرى، فطبيعة النظام السوري لا تمنح رئيس الوزراء والوزراء وأعضاء مجلس الشعب والمديرين العامين مجالا للتصرّف بوضع البرامج والخطط واتخاذ القرارات لكسب الخبرة، دورهم تنفيذ أوامر رأس النظام وأجهزة المخابرات وتعليماتهم. والمؤلم أكثر أن سلوك المعارضة هذا ليس طارئا، بل يكاد يكون جزءا من عقليتها وممارستها الاعتيادية. ألم يُقبل جناح صلاح جديد من حزب البعث، المشهور بالشباطيين، في التجمّع الوطني الديمقراطي الذي شكلته أحزاب المعارضة عام 1979، ويحتل موقعا مساويا لأحزابٍ عريقةٍ في معارضتها النظام من دون اعتبار لممارساته طوال فترة حكمه من 1966 إلى 1970، حكم استبدادي قمعي بثوب يساري؛ كان له قصب السبق في تكريس الممارسات الفئوية والتمييز الطائفي في الحياة الوطنية، خصوصا في الجيش وأجهزة المخابرات، وإن خلفية معارضته النظام أساسها الانقلاب عليه وإخراجه من السلطة، وليس أي شيء آخر، بدليل تمسّكه بأدبياته ودفاع كوادره عن ماضيه المشين. ثم ألم يقبل إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي انضمام جماعة الإخوان المسلمين لصفوفه، على الرغم من اعتمادها العنف والتحريض الطائفي وسيلة للوصول إلى السلطة وارتباطها السياسي العابر للحدود والتزامها بتوجيهات التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين. هنا أيضا كان ثمّة مبرر: إقامة وحدة وطنية ضد النظام، وكأن الوحدة الوطنية شكل من دون محتوى أو محدّدات.
يبدو أن معيار المعارضة في موقفها من الأشخاص والقوى السياسية؛ وكلمة السر في تقويمها هو “الموقف من النظام”، فإعلان موقفٍ معارضٍ للنظام يجبّ ما قبله ويمحو كل الذنوب والخطايا، من دون اعتداد بطبيعة هذه المعارضة المعلنة أو التدقيق في خلفياتها وهدفها وسياق تحولها إلى معارضة واحتمالاتها المستقبلية ومآلاتها؛ وانعكاس ذلك كله على النضال الوطني.
لا يمكن لعقليةٍ وممارسة كهاتين أن تؤسسا لوعي سياسي منطقي وموضوعي، يأخذ على محمل الجدّ المقدّمات التي ستفرز نتائجها بالضرورة، وستنعكس، بالضرورة أيضا، سلبا أو إيجابا، على حركة النضال الوطني، فتدفع القوى الوطنية أثمانا باهظة لعدم مراعاتها الخلفيات والمقدّمات ووضعها في موقعها الحقيقي في حساباتها السياسية والاجتماعية.
المصدر: العربي الجديد