لا يشكّل تزايد أعداد المتسولين في سوريا ظاهرة لافتة بالنظر إلى توفر كل العوامل التي تساعد على انتشارها، خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم والفقر والبطالة، لكن اللافت مؤخراً هو انضمام شرائح جديدة إلى فئة المتسولين، وابتكار أساليب جديدة في التسول.
وتقول الوكالات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة إن سوريا تعاني من كارثة انسانية غير مسبوقة، حيث يفتقر أكثر من 9.3 مليون شخص إلى الغذاء الكافي ويعيش أكثر من 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر. فيما ارتفعت أسعار السلع الغذائية أكثر من 200 في المئة في أقل من عام.
أتاوة ولكن
قرب أحد مراكز الصرافة الشهيرة في شارع الحمراء وسط العاصمة دمشق، يقف الحاج حسين الذي فعلت به سنون الحرب مالم تفعله أعوام العمر. ينكز المارة والخارجين من المركز بعكازه الخشبي الغليظ، طالباً منهم، وبلهجة تدل على أنه نازح من إحدى مناطق ريف دمشق، مبلغ مئتي ليرة أو أكثر، حسب مظهر الشخص.
“عطيني 200.. هات 500.. أنت تعا لهون وادفع 300..” جمل يكررها الرجل السبعيني بكل وضوح وحزم، لكن بكل ود أيضاً، ما يُكسبه بالفعل تعاطف الكثيرين ويؤكد نجاح أسلوبه الفريد في طلب المال من الآخرين، بعد أن باتت الملابس الرثة و لهجة الإلحاح والتذلل غير كافية بالنظر إلى التزايد الكبير في عدد المتسولين، الذين تضاعفت أعدادهم في مختلف المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وفي العاصمة دمشق تحديداً.
ولا يقتصر نمو ظاهرة التسول على الأعداد وحسب، بل بات يشمل فئات جديدة من المجتمع لم يكن متوقعاً في أي يوم أن ينضم أحد منها إلى شريحة المتسولين، وغدا بالإمكان ملاحظة أن بينهم من يبدو عليه الوقار ومن لم يستطع خلع رداء الكرامة بعد، ما يضطر أغلب هؤلاء إلى استخدام أساليب مختلفة للحصول على المال، مثل إبدائهم الجاهزية لتقديم بعض الخدمات، أو طلب المساعدة بطريقة الأمر المنمق، أو “الأتاوة الظريفة” كما يفعل الحاج حسين.
التسول في دمشق
صور العائلات التي تفترش الأرصفة والحدائق في كل مكان، وأصوات الفتيات والنساء المهرولات خلف المارة والسيارات طلباً للمال أو أي شكل من المساعدة، وكذلك الأطفال المنتشرين عند مفارق الطرق يترقبون توقف حركة المرور للانقضاض على نوافذ السيارات، ومشهد الشيوخ والمعاقين عند مداخل الأسواق وأمام مراكز الصرافة وتحويل الأموال في مختلف المناطق السورية، وفي العاصمة دمشق تحديداً، تغني بسبب فائض توفرها عن تكلف عناء البحث والدراسات لرصد ظاهرة التسول في سوريا اليوم.
لكن أكثر ما يلفت الانتباه في العاصمة مؤخراً، هو انتشار الظاهرة بين عناصر جيش النظام الذين يستخدم أكثرهم التسول المقنع للحصول على المال، بعد أن بات راتب العنصر لا يساوي ثلاثين دولاراً في الشهر.
أضحى مألوفاً مشاهدة مجند في الجيش وهو يقف قرب أحد كراجات حافلات النقل يطلب من الناس ثمن تذكرة تقله إلى مدينته لقضاء الإجازة، أو عنصر آخر يستجدي فوق جسر للمشاة أو في إحدى الساحات لشراء علبة سكائر أو وجبة طعام.
وما ينطبق على عناصر وضباط الجيش من ناحية الراتب الشهري ينطبق طبعاً على فئة الموظفين في القطاعين العام والخاص، حيث باتت الغالبية العظمى من هذه الفئة بحاجة لزيادة دخلها للمساعدة على توفير الاحتياجات الأساسية، بعد أن أصبح المعاش غير كافٍ لتأمين حتى الحد الأدنى منها.
وبينما لجأ البعض إلى الالتحاق بركب المرتشين والاعتماد على ما يضمنه الانخراط في عمليات الفساد من مردود يغني عن ذل السؤال بل ويوفر أكثر من ذلك غالباً، يفضل آخرون من فئة الموظفين تجنب ذلك ولا يتوانون عن القبول بأي شكل من المساعدة يمكن أن تقدم لهم أو التي يمكن أن يكون متاحاً طلبها من الآخرين دون مخاطرة، كابداء الجاهزية لاعطاء دروس خاصة بعد الدوام رغم عدم التخصص، أو القيام بأعمال التنظيف، أو عرض خدمات المساعدة على أصحاب محلات السوبر ماركت.
لكن البعض منهم بات يجمع بين رفض الفساد والتسول، من خلال الجمع بينهما في الوقت نفسه وبطريقة مبتكرة أيضاً، كما يفعل العديد من الموظفين حالياً الذين يؤدون عملهم على أتم وأسرع وجه للمراجعين وفي النهاية يطلبون منهم مقابل جهدهم مبلغاً معقولاً بطريقة شديدة التهذيب.
قصور التعاطي الحكومي
وتعترف مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل التابعة للنظام بتفشي ظاهرة التسول وعدم القدرة على ضبطها “رغم عمليات الملاحقة المستمرة وتنظيم ضبوط بحق المتسولين تصل في بعض الأحيان إلى 500 ليرة يومياً، خاصة وأن المتسولين الذين يتم اعتقالهم يعودون إلى مزاولة العمل فور الإفراج عنهم” حسب تصريح للمديرية صدر عنها مؤخراً، من دون أن تتطرق إلى الأسباب الرئيسية لتفاقم الظاهرة.
وقد شدد القانون السوري عقوبة التسول بعد تعديل المادة 596 عام 2019، من شهر إلى ستة أشهر مع الأشغال لتصبح بين الشهرين والسنة مع غرامة مالية تتراوح بين عشرة آلاف إلى مئة ألف، لكن “جمال” كما بات يعرفه أهالي حي القابون، وهو رجل خمسيني نازح من محافظة الرقة ويمضي طيلة وقته جالساً في ركن أحد الشوارع الرئيسية في الحي وأمامه قطعة قماش تدل على حاجته للمال، يقول: :أتمنى السجن لسنة مقابل عشرة آلاف ليرة، هناك سأحصل على الطعام والشراب والمسكن من دون الحاجة للشحادة”.
وبينما تزداد أعداد الفقراء ومعدلات التضخم والفقر، يواصل النظام خفض ميزانية الدعم، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية، الأمر الذي يسهم في زيادة مستويات تقلص الأمن الاجتماعي، والذي يعتبر التسول أحد مظاهره الرئيسية.
وأقرت حكومة النظام موازنة تقديرية للعام القادم 2021 قيمتها 8500 مليار ليرة، ما يساوي 6.8 مليار دولار، بينما بلغت ميزانية عام 2010 أكثر 16.4 مليار دولار.
التسول المقنع
وكنتيجة حتمية للأزمة الاقتصادية والمعيشية التي يمر بها السكان، وارتفاع عدد المتسولين، ما يعني زيادة المنافسة بينهم للظفر بالقادرين على تقديم المساعدة وقد انحسر عدد هؤلاء بشكل كبير، لجأ الكثيرون من أصحاب الحاجة، وخاصة الأطفال والفتيات، إلى أسلوب “السرقة الخفيفة” للحصول على احتياجات عوائلهم، وابتكار طرق جديدة لانجاز مهامهم.
ويؤكد أبو خليل، صاحب محل لبيع الخضروات في مدينة حلب، أن “عمليات السرقة باتت مشهداً اعتيادياً في الأسواق، وغالباً لا ينتبه البائع إلى سقوطه ضحية لإحدى هذه العمليات، وفي بعض الأحيان عندما يتم اكتشاف السارق يجري التسامح معه، خاصة إذا كانت المسروقات رخيصة”.
ويضيف “قبل يومين ضبط جاري، وهو صاحب محال لبيع الألبسة النسائية، فتاة وضعت شالاً لايتجاوز سعره ألفي ليرة على رأسها وهي تغادر المحل كمن لم يحمل أي شيء! كما بات متداولاً أيضاً لجوء البعض إلى الاحتيال على أصحاب محلات الأحذية، خاصة في أوقات الازدحام، حيث يقومون بنزع أحذيتهم البالية ومغادرة المحل وهم ينتعلون الحذاء الجديد وكأن شيئاً لم يكن”.
لا يتم التعامل غالباً مع هؤلاء على أنهم لصوص، ومن الواضح -حسب أبو خليل- أنهم يسرقون لتأمين حاجتهم الماسة للطعام أو اللباس، لكن الخشية من أن يشكل ذلك مدخلاً لهم وبداية الطريق أمامهم لامتهان السرقة.
المصدر: المدن