هل فضح حسين شريعتمداري، رئيس تحرير صحيفة كيهان الرسمية الناطقة باسم النظام الموقف الحقيقي للمؤسسة الدينية الإيرانية من الحوزة الدينية في مدينة النجف الأشرف، ومدى القلق من الموقع والدور والتأثير التي تتمتع بها هذه المرجعية في العالم الإسلامي عامة ولدى الطائفة الشيعية خصوصاً؟
على الرغم من مسارعة شريعتمداري إلى الاعتذار في اليوم التالي عن الهجوم والانتقاد اللذين وجّههما للمرجع الأعلى السيد علي السيستاني، إلا أن هذا الاعتذار لم يمنع القيادات السياسية والعسكرية من المسارعة أيضا إلى التأكيد على موقع ودور وأهمية ومكانة السيد السيستاني الدينية والاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي، خصوصاً في العراق. إلا أن الملاحظ في هذا الإطار أن الجهات التي سارعت لإبداء ما يمكن اعتباره اعتذاراً، اقتصرت على الجهات المعنية بالحفاظ على حالة التهدئة مع الساحة العراقية، بخاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها العلاقة الثنائية وما فيها من توترات وتنافر شديدين، ارتفعت حدتهما بعد تظاهرات تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي التي يقف العراق والوجود الإيراني على مشارف الذكرى السنوية الأولى لأحداثها وما لحق الدور والوجود والنفوذ الإيراني من أضرار وخسائر جراء أداء حلفاء طهران وفصائل الميليشيات المؤيدة لها على الساحة العراقية إن كان في مؤسسات الدولة أو على المستوى الاجتماعي والثقافي، وصولاً إلى الأداء الأمني الذي عزز تمسك المتظاهرين والمعترضين بمطالبهم الداعية إلى إنهاء النفوذ الإيراني والفصائل التابعة له لصالح تعزيز مؤسسات الدولة السياسية والأمنية في إطار استعادة الهيبة والسيادة العراقية الكاملة.
تأكيد الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف على رفض المساس بالسيد السيستاني واعتبار ما كتبه شريعتمداري في افتتاحية كيهان لا يمثل الموقف الرسمي للحكومة الإيرانية، قد يكون صحيحاً وحقيقياً، انطلاقاً من سعي حكومة روحاني لبناء علاقة متوازنة مع الجانب العراقي حكومة ومؤسسات رسمية، بخاصة المرجعية في النجف الأشرف بهدف إخراج العلاقة بين البلدين من الطابع الأمني الذي غلب عليها في السنوات الماضية وأسهم في تراجع العمل الدبلوماسي والرسمي لصالح علاقات تمرّ عبر قناة جماعات وفصائل لا تلبي حاجة البلدين لبناء علاقات متوازنة تسمح لهما بمواجهة المخاطر والتحديات التي تهدد استقرارهما.
توسيع دائرة الخسارة الإيرانية
وقد تكون طهران الآن بأمس الحاجة لعدم رفع مستوى خسائرها على الساحة العراقية واللجوء إلى مستوى جديد من التعامل مع المكوّنات السياسية العراقية يختلف عن المراحل السابقة التي ساعدت بعض الجهات حتى تلك التي تولّت رئاسة الوزراء في التعامل مع مؤسسات الدولة انطلاقاً من رؤيتها الحزبية الضيقة على حساب المصلحة العامة والوطنية، ما أسهم في توسيع دائرة الخسارة الإيرانية لتحملها مسؤولية ما آلت إليه الأمور نتيجة دعمها وتبنّيها لهذه القوى. وتتعزز هذه الحاجة الآن في ظل ما وصل إليه التصعيد بين إيران وأميركا وإمكانية أن تنزلق الأمور إلى مواجهة عسكرية بينهما على أرض العراق.
ولعل دخول القائد الجديد لقوة القدس الجنرال اسماعيل قآني على خط التأكيد على موقع ودور مرجعية النجف والسيد السيستاني في الحفاظ على العراق ووحدته وقوته في مواجهة المخاطر، يأتي من إدراك واضح لدى القيادة العسكرية المعنية بالساحة العراقية لخطورة موقع المرجعية وتأثيرها في الساحة العراقية التي لا تقتصر على الجماعات الدينية بل تتعداها إلى القوى المدنية وحتى المكوّنات المذهبية والدينية والعرقية والقومية الأخرى. إن المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها الدور الإيراني على الساحة العراقية، خصوصاً المهمات التي يتولاها الجنرال قآني وفريقه تستدعي الكثير من الاحتياط في التحركات والمواقف، وهي بغنى عن فتح معركة مجانية مع الجهة الأقدر على الإمساك بمسارات المواقف والأكثر تأثيراً في القرارات الرسمية والشعبية.
وهنا لا بد من التأكيد أن المرجعية النجفية و”بيت السيد السيستاني” ليسا بوارد الدخول في معارك مع أي من الأطراف السياسية الداخلية والخارجية، خصوصاً الإقليمية وتحديداً الإيرانية، أو أن يتحوّل موقع ودور النجف ومرجعيتها إلى منطقة تجاذب يوظفه الأميركي والإيراني وغيرهما في صراعهما على الساحة العراقية ومن ورائها الشرق الأوسط. فموقف المرجعية يتحرك على أرضية مصلحة العراق والحفاظ على سيادته ومؤسساته واستقلالية قراره، بعيداً من أي جهة أخرى، وهو موقف رافض لأي تأثير أو مصادرة خارجية لقرار الدولة العراقية وسيادتها على أراضيها.
أبعاد التطاول على النجف
ما كشفت عنه افتتاحية شريعتمداري في صحيفة كيهان وأكده الاعتذار في اليوم التالي، هو وجود اتجاهين في دوائر القرار الإيراني، الأول يتمثل في الموقف الرسمي للحكومة الإيرانية ومعها إلى حد كبير قيادة قوة القدس، وهو موقف يسعى إلى تضييق مساحات التوتر على الساحة العراقية وقطع الطريق على مزيد من الخسائر التي قد تنتهي بإمكانية خسارة الدور الإيراني في هذا البلد، إذ إن التطاول على مرجعية السيستاني ودور المرجعية النجفية يعنيان محاولة جرّ هذه المرجعية لموقف تصعيدي مباشر حرصت النجف أن تبقى بعيدة منه وستبقى، لأن الدخول في مواجهة مع المرجعية النجفية يعني خسارة كل الأوراق التي يمكن التعويل عليها للحدّ من حجم الخسائر السياسية والثقافية والاجتماعية التي بدأت وتيرتها بالارتفاع. ولأن هذا الاتجاه يرى أن آخر ما تريده إيران هو خسارة التوازن الذي تمثله النجف التي تشكل صمام أمان يخفف من تداعيات الأخطاء التي تقوم بها القوى والأحزاب والفصائل الشيعية السياسية، بالتالي تكبح اتجاهات الصراعات الداخلية بين هذه القوى وتكرّس دورها وموقعها كصمام أمان للعراق وللمنطقة على حدّ سواء.
والثاني يمثل توجهاً لا يرى أي دور للنجف خارج دائرة المؤسسة الدينية التي تسعى إلى التفرد والاستئثار بالمرجعية الشيعية وتقديم الخصوصية الإيرانية على كل الخصوصيات الأخرى، وتعتقد بصعوبة التعايش مع مرجعيات لا تعترف بالولاء لها. من هنا، فإن الانتقاد الذي وجهه شريعتمداري يعبّر عن رغبة لدى التيار الذي يمثله لا تقف فقط عند حدود العراق، بل تتعداه إلى كل الحواضر الشيعية في البحرين واليمن وأفغانستان ولبنان وغيرها من البلدان، بدفع هذه الحواضر إلى تبنّي الخيار الإيراني في الولاء والمرجعية، بالتالي ولاية الفقيه التي تسعى إلى وضع كل الجماعة الشيعية ضمن مسار يوحّدها في إطار المواجهة الشاملة مع الغرب وأميركا والمؤسسات الدولية، من دون الأخذ بخصوصيات كل ساحة من الساحات.
يبدو أن شريعتمداري والاتجاه الذي يمثله داخل النظام الإيراني لم يعودا يتردّدان في إظهار انزعاجهما وعدم ارتياحهما للاستقلالية التي تتحرك على ساحتها مرجعية النجف والدور الذي تقوم به للحفاظ على العراق واستقراره ووحدته وسيادته أمام التدخلات الخارجية. وهو موقف بدأ منذ أن أدركت طهران تأثير مرجعية النجف عام 2004، عندما استطاعت ببضع كلمات تغيير مسار الجهود الأميركية حول الدستور الجديد للعراق، ودورها في قطع الطريق على الآثار السلبية للفتنة المذهبية التي أريد لها أن تدمر العراق وتقسّمه، ووقوفها بوجه كل الفاسدين الذين توالوا على السلطة حتى أولئك الذين دعمتهم طهران، وصولاً إلى موقفها من الأزمة الحكومية الأخيرة الذي أدى إلى إفشال كل مساعي طهران لفرض مرشحها، ما حوّل هذه المرجعية والسيد السيستاني إلى صمام أمان واستقرار للعراق بوجه كل الأطراف الساعية للسيطرة عليه واستتباعه.
التطاول وانتقاد المرجعية لإمكانية موافقتها على إشراف الأمم المتحدة على نزاهة الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة في 6/6/2021 التي قد تكون متأتية من باب حرص النجف على ضمان تمثيل حقيقي للشعب العراقي في البرلمان الجديد بعد تجارب كان التزوير فيها فاضحاً، خصوصاً أن هذه الانتخابات من المفترض أن تؤسس لمرحلة جديدة من الحياة السياسية في العراق. من هنا، فإن الإشراف الأممي على العملية الانتخابية قد يطيح بالكثير من الشخصيات والقوى التي لن تكون قادرة على فرض النتائج التي تخدمها، ولعل خوف شريعتمداري مصدره عدم قدرة الجماعات الموالية لطهران من العودة إلى البرلمان في انتخابات تمت هندسة نتائجها مسبقاً على غرار ما يحصل في إيران التي لو جرت انتخاباتها بشفافية وتحت رقابة أممية، لاختلفت نتائجها ولما كان النظام أمام اتهامات دولية بمصادرة آراء وتمثيل مختلف الشرائح الإيرانية الشعبية والسياسية.
المصدر: اندبندت عربية