( الوحدة مع مصر كانت سبب تدمير الاقتصاد السوري .. اشتراكية عبدالناصر وسياسة التأميم والإصلاح الزراعي عرقلت عجلة التطور الاقتصادي في سوريا .. سحقت الرأسمالية الوطنية وألغت دورها بعملية التنمية الاقتصادية .. دمرت الصناعة في سوريا .. أعادت سوريا اقتصادياً إلى الوراء ، …. ، …. ) إلخ من أمثال هذه الافتراءات والشائعات .
شائعات جوفاء .. لا زال يرددها حتى اليوم معارضوا وخصوم دولة الوحدة .. لكثرة ما أشيعت في سوريا ولازالت تشاع حتى اليوم بأي حديث عن تجربة الوحدة ، ترسخت بقناعة الكثيرين ممن يجهلون الحقيقة .. حتى أصبحت بثقافتهم كأنها حقيقة مسلّم بها غير قابلة للجدل والنقاش …
بعيداً عن الجدل والنقاش ..
تلك جولة استكشافية وثائقية .. كشفاً للحقيقة .. بتسليط الأضواء الكاشفة على كل ما يتعلق بالموضوع .. بعيداً عن المواقف السياسية أو الفكرية سلباً أو إيجاباً من تجربة الوحدة أو من اشتراكية عبدالناصر .. ومن فكرة التأميم .
التأميم في سوريا قبل الوحدة .. من هنا نبدأ :
لم تكن فكرة التأميم في سوريا فكرة ناصرية وليدة لدولة الوحدة كما يعتقد أو كما يزعم البعض ، فقد عرفتها سوريا فكراً وسياسة قبل قيام دولة الوحدة بسنوات .. وقد شرّع لها دستور 1950 بنص المادة / 24 / : (( للدولة أن تؤمّم بقانون كل مؤسسة أو مشروع يتعلق بالمصلحة العامة مقابل تعويض عادل )) .
واستناداً إلى هذه المادة من الدستور ، صدر القانون رقم / 85 / بتاريخ ــا 31 / 1 / 1951 ، تم بموجبه تأميم العديد من الشركات ، منها مثلاً : شركة حافلات النقل الكهربائية ( الترام ) في دمشق .. شركات الكهرباء والمياه في كل من دمشق وحمص وحماة وديرالزور والقامشلي .. وفي ــا 5 / 3 / 1951 صدر القانون رقم / 422 / القاضي بتأميم شركات الكهرباء والمياه والحافلات الكهربائية في مدينة حلب .. وفي عام 1955 تم تأميم ( شركة الخطوط الحديدية السورية ) .. وفي عام 1956 ، تم تأميم شركة حصر التبغ والتنباك ومصرف سوريا ولبنان … كل هذا قبل قيام دولة الوحدة …
خلال مرحلة الوحدة :
بتاريخ ـا 20 / 7 / 1961 ، أي قبل شهرين من يوم الانفصال ، واستناداً إلى أحكام الباب الثاني من دستور الجمهورية العربية المتحدة ، صدرت ثلاثة قوانين خاصة بالتأميم .. القوانين الثلاثة لم تكن خاصة بسوريا ، إنما جاءت عامة تشمل إقليمي الجمهورية العربية المتحدة ( الشمالي والجنوبي / سوريا ومصر ) .. لكن الحديث هنا يقتصر على ما يخص سوريا فقط ، باعتبارها هي موضوع البحث …
القانون الأول رقم / 117 / :
يقضي بتأميم جميع المصارف وشركات التأمين تأميماً كاملاً ، ونقل ملكيتها بالكامل إلى الدولة ، إضافة إلى تأميم ثلاث شركات صناعية .. وهي :
– الشركة التجارية الصناعية المتحدة / الخماسية .
– شركة الشهباء للغزل والنسيج .
– الشركة العربية لصناعة الأخشاب .
مع التزام الحكومة بتعويض المساهمين بهذه المصارف والشركات بكامل أموالهم المستثمرة كما جاء في نص القانون : ( تسدد الحكومة للمساهمين بهذه الشركات قيمة الاسهم التي آلت إليها ملكيتها .. بموجب سندات إسمية على الدولة لمدة 15 سنة بفائدة سنوية 4 % .. وتكون السندات قابله للتداول .. وتقدر قيمة السهم بالقيمة السوقية بتاريخ صدور القانون ) .
القانون الثاني رقم / 118 / :
يقضي بتأميم / 12 / شركة مساهمة تأميماً جزئياً حددها القانون بالاسم .. بمشاركة الدولة بملكية هذه الشركات بنسبة ( 50 % ) من رأس مال كل منها .. مع التزام الحكومة بتعويض أصحابها والمساهمين عن قيمة النصف المؤمم من مساهماتهم على غرار ما جاء في القانون السابق .
القانون الثالث رقم / 119 / :
يقضي أيضاً بتأميم / 12 / شركة مساهمة تأميماً جزئياً ، بمشاركة الدولة بملكية هذه الشركات .. حدد القانون السقف الأعلى لملكية كل مساهم بأي من هذه الشركات بمبلغ / 100 / ألف ليرة سورية .. وكل ما زاد عن ذلك تؤول ملكيته إلى الدولة .. مع التزام الحكومة بتعويض أصحابها والمساهمين على غرار ما جاء في القانونين السابقين .
مجموع الشركات الصناعية التي شملتها قوانين التأميم / 27 / شركة .. من أصل أكثر مئتي شركة ومنشأة صناعية وتجارية وخدمية ، إضافة إلى خمسة مصارف وطنية سورية ، وتسعة فروع مصارف عربية ، وستة فروع لمصارف أوروبية .
تم تكليف وزارة الاقتصاد والمالية بإصدار القرارات واتخاذ الإجراءات الوزارية اللازمة لتنفيذ هذه القوانين خلال شهرين من تاريخ نشرها بالجريدة الرسمية .
بتاريخ ـا 28 / 9 / 1961 ، بعد شهرين فقط من صدور هذه القوانين ، أي قبل ان يتم العمل على تنفيذها بشكل فعلي ، حصل انقلاب الانفصال .. وفي أول مؤتمر صحفي له أعلن مأمون الكزبري أول رئيس لدولة الانفصال إلغاء كافة قرارات التأميم .. وكان أول قرار اتخذته حكومة الانفصال رسمياً برئاسة ( د. معروف الدواليبي ) إلغاء هذه القوانين وكل ما انبثق عنها من قرارات وإجراءات .. وهذا باعتراف الدكتور معروف الدواليبي في الصفحة / 186 / من مذكراته .
هذا كل ما يتعلق بموضوع التأميم بزمن الوحدة .. والموضوع لا يحتاج إلى اكثر من هذا .. ولا يحتاج إلى أي تعليق بأكثر من سؤال مختصر :
ماهي الآثار المدمرة للاقتصاد السوري التي أحدثتها قوانين ظلت حبراً على ورق على مدى شهرين بعد صدورها ، ومن ثم ألغيت .. وألقيت في سلة المهملات ؟؟ .
وفي محاولة فاشلة لتأكيد صحة ادعاءات وشائعات التأميم ، البعض من خصوم ومعارضي تجربة الوحدة وخاصة من طبقة التجار ورجال المال والأعمال .. وبلهجة الصادق الواثق من صحة معلوماته يضرب لنا مثلا :
1- تأميم الشركة التجارية الصناعية المتحدة / الخماسية ، باعتبارها أشهر وأضخم شركة خاصة في سوريا ، ولا تزال قائمة حتى اليوم بكل منشآتها شاهدة على العصر ، تحمل ذات الاسم مضافاً إليه كلمة ( المؤممة ) .
2- تأميم شركة معامل الشهباء للمغازل والمناسج في مدينة حلب .
وما ذلك إلا حديث افتراء متعمد من قبل البعض لتزييف الحقيقة .. أو جهل بالحقيقة عند البعض الآخر .. ذلك أن تأميم الشركة الخماسية حصل بزمن الانفصال لا بزمن الوحدة ، بموجب المرسوم رقم / 9 / الصادر عن رئيس الجمهورية ناظم القدسي بتاريخ ــا 30 / 4 / 1962 ، أثناء رئاسة الدكتور بشير العظمة للحكومة .
أما شركة معامل الشهباء للمغازل والمناسج في حلب ، فقد تم تأميمها بالمرسوم رقم / 54 / تاريخ ــا 16 / 4 / 1964 . بتوقيع الرئيس أمين الحافظ .. ونصّ المرسوم ذاته على تأميم شركة احمد الططري وأولاده في مدينة حلب ، وشركة جميل عداس وشركاه في مدينة حلب أيضاً .
هذا كل ما يتعلق بقصة التأميم خلال مرحلة الوحدة .. وكل ما يقال غير ذلك محض أكاذيب وافتراءات متعمدة أطلقها بدايةً خصوم ومعارضوا دولة الوحدة ، تحولت فيما بعد إلى شائعات مزمنة لا زال يتناقلها البعض جهلاً بالحقائق ، وغالباً ما تسود الشائعات بأوساط الرأي العام ، لتبقى الحقائق أسيرة بين طيات الوثائق والمستندات .
سياسة التأميم بعد الوحدة :
اتبعت حكومة حزب البعث منذ عام 1963 سياسية تأميم عامة شمولية واسعة ، أصدرت سلسلة قوانين للتأميم كانت أشمل وأوسع من قوانين عهد الوحدة .. تأميم كامل بنسبة 100% وليس جزئياً كما في زمن الوحدة .. ألغت القطاع الصناعي الخاص نهائياً على الطريقة الشيوعية ، إلا في الصناعات البدائية والحرف والمهن اليدوية .. صادرت كل منشآت القطاع الخاص الصناعي مهما بلغ حجم المنشأة ورأسمالها وعدد عمالها .
باتريك سيل في الصفحة 161 من كتابه ( الصراع على الشرق الأوسط ) يختصر نهج التأميم في سوريا بمقولة مختصرة :
(( لم يكن التأميم في سوريا التزاماً بالنهج الاشتراكي لحزب البعث ، إنما كان لدوافع الانتقام الشخصي من الطبقة البرجوازية ، وهذا ما قاله حافظ الأسد : ” كنا مصممين على إنهاء استغلال حفنة من العوائل ” …. وفي الأسبوع الأول من عام 1965 تم تأميم أكثر من 100 شركة كان أكثرها مجرد ورشات صغيرة ، مجموع عمالها مجتمعة 12000 عامل )) .
وباعتراف أمين الحافظ رئيس الجمهورية من 27 تموز 63 إلى 23 شباط 66 ، فإن معظم الشركات التي تم تأميمها في عهده لم تكن تستوفي شروط التأميم القانونية ، فبعضها كان صغيراً لا يتعدى مستوى ورشة عائلية أو دكان .
هذا عن التأميم في القطاع الصناعي … فماذا عن الإصلاح الزراعي ؟
بداية .. لمن يرفضون فكرة الإصلاح الزراعي وتحديد الحد الأقصى لملكية الأراضي الزراعية ، نذكّرهم ونضيف إلى معلوماتهم أن الفكرة لم تكن خاصة بالاشتراكيين والدول الاشتراكية ، إنما تبنتها وعملت بها بتلك المرحلة ( ما بعد الحرب العالمية الثانية ) العديد من الدول التي تنتهج نظام الاقتصاد الرأسمالي الحر .
وتحديد الحد الأقصى لملكية الأراضي الزراعية قد اختلف من بلد إلى آخر ، بل حتى داخل البلد الواحد ، تبعاً لعوامل مختلفة خاصة بكل بلد …. بعض الأدلة والأمثلة على ذلك :
– في اليابان مثلاً ، صدر قانون الإصلاح الزراعي عام 1946 ، وحدد الحد الأقصى للملكية الفردية بـ / 3 / هيكتارات ، والفائض تستولي عليه الدولة لقاء تعويض المالك عن قيمته ، ويتم بيعه لصغار المزارعين المستأجرين لقاء ثمن يسدد على أقساط سنوية محددة .
– في إيطاليا ، أقرت الدولة قانونين عام 1950 ، القانون الأول حدد الحد الأقصى بـ / 300 / هيكتار ، أما في القانون الثاني فالحد الأقصى كان متغيراً تبعاً لعوامل مختلفة ، وتنفيذاً لهذين القانونين وصلت نسبة الأراض المؤممة في بعض المناطق إلى / 90% / من مجمل الأراضي الزراعية .
– في تركيا حددت قوانين الاستملاك والإصلاح الزراعي الحد الأقصى للملكية الفردية بـ / 500 / هيكتار .
– في الهند كان الحد الأقصى يختلف من ولاية إلى أخرى تبعاً لعوامل مختلفة .
– في دول أمريكا اللاتينية ، لخص خبراء الاقتصاد في هذه البلدان مشكلة الاقتصاد الزراعي بمقولة بسيطة ( فلاحون بلا أرض ، وأرض بلا فلاحين ) ، لهذا أصدرت قوانين الإصلاح الزراعي .
– في المكسيك ، تفاوتت السياسات المتخذة للإصلاح الزراعي وتحديد ملكية الأراضي الزراعية .
– في البرازيل ، صدر قانون الإصلاح الزراعي عام 1964 ، تعذر التأميم وتوزيع المؤمم على الفلاحين لأسباب مختلفة ، فأقر القانون فرض ضريبة تصاعدية على الأراضي المهملة والأراضي الواسعة التي تفوق حداً معيناً .
هذا على مستوى الدول الرأسمالية ، فقط للتأكيد على أن سياسة الإصلاح الزراعي ، وتأميم الأراضي الزراعية وإعادة توزيع ملكيتها ، وتحديد سقف الملكية الزراعية ، لم تقتصر على الاشتراكيين وعلى منظومة الدول الاشتراكية ، فهي سياسة اقتصادية اجتماعية ، اتبعتها دول كثيرة تجاوزت المئة دولة منذ أربعينيات القرن الماضي ، وفي حقبة السبعينات وما بعد عقدت عدة مؤتمرات دولية برعاية منظمة الأمم المتحدة لتشجيع الدول على سياسة الإصلاح الزراعي .
عودة إلى سوريا :
لم تكن فكرة الإصلاح الزراعي وتحديد حد أعلى لملكية الأراضي الزراعية فكرة جديدة مستجدة بزمن الوحدة ، الفكرة كانت مطروحة رسمياً قبل قيام دولة الوحدة بثمان سنوات ، وقد اشار إليها دستور 1950 بنص المادة رقم / 22 / .. أنقل نص المادة حرفياً كما هو تماماً : (( لتحقيق استثمار أرض الوطن بصورة صالحة ، ولإقامة علاقات اجتماعية عادلة بين المواطنين ، يُسَن تشريع خاص يقوم على المبادئ الآتية :
أ ـ وجوب استثمار الأرض ، وعند اهمالها مدة يحددها القانون ، يسقط حق التصرف فيها .
ب ـ يحدد بقانون ( حداً أعلى ) لحيازة الأراضي ، تصرفاً أو استثماراً ، بحسب المناطق ، على أن لا يكون له مفعول رجعي )) .
الفقرة ( آ ) أجازت للدولة حق استملاك وتأميم الأراضي المهملة … الفقرة ( ب ) تحدثت صراحة عن تحديد ( حد أعلى ) لحيازة ملكية الأراضي والعقارات بشكل عام ، ومنها الأراضي الزراعية .. وقد جرت محاولات عديدة لإصدار قانون خاص لتنفيذ هذه المادة بتحديد الحد الأعلى لحيازة الأراضي الزراعية ، إلا أن هذه المحاولات كانت دائماً تصطدم بنفوذ طبقة الإقطاع وكبار ملاكي العقارات ورجال المال والأعمال ، وكان هؤلاء دائماً هم صناع القرار قبل فترة الوحدة ، وكانت لهم النسبة الأكبر من مقاعد البرلمان .. ففي شهر ايلول من عام 1951 مثلاً ، طرح في البرلمان مشروع قانون لتعديل هذه المادة وتنفيذها بتحديد سقف الملكية العقارية ، إلا أن المشروع رُفِضَ من قبل البرلمان ، ولم يلقَ تشجيعاً من قبل الحكومة والطبقة السياسية المتنفذة .
ويمكن القول باختصار : إن حيازة ملكية الأراضي الزراعية في سوريا منذ الاستقلال قد تعرضت لحالة خطيرة من الفوضى والانفلات ، ومثال عن ذلك كما جاء في كتاب ” التكون التاريخ للجزيرة السورية ” (( تعرضت أراضي الدولة القابلة للزراعة في محافظة الحسكة إلى حالة ” وضع اليد ” .. حيث ازدادت مساحة أراضي الدولة التي وضع اقوياء العشائر ومستثمري المدن أيديهم عليها من / 323 / ألف هيكتار عام 1947 إلى / 1683000 / هيكتار عام 1958 ، سيطر عليها أربعون ملاكاً كبيراً فقط ) ص / 711 .
بتاريخ ــا 30 / كانون الثاني / 1952 أصدر أديب الشيشكلي المتحالف مع الاشتراكي أكرم الحوراني المرسوم التشريعي رقم / 96 / (( يقضي بتحديد سقف ملكية الأراضي بـ / 150 / هيكتاراً في محافظتي الجزيرة والفرات والبادية و/ 50 / هيكتاراً في باقي المحافظات ، وتوزيع أراضي الدولة على الفلاحين وتسريع وتيرة تحضير العشائر ، بما يتضمنه من سياسات تقوم على الاستعداد لاقتطاع جزء من ملكيات كبار الملاك لمصلحة الفلاحين في حال لم يستطع قانون توزيع أراضي الدولة حل ذلك … وتم اعتماد برنامج للتنفيذ على مدى ثلاث سنوات اعتباراً من عام 1953 إلى عام 1955 )) ص / 635 / التكون التاريخي للجزيرة السورية ،
هذا قبل قيام دولة الوحدة … أما خلال فترة الوحدة :
البداية كانت بإصدار القانون رقم / 134 / بتاريخ ــا 4 / 9 / 1958 .. القاضي بتنظيم العمل الزراعي والعلاقات الزراعية ، بهدف تنظيم العلاقة بين الفلاح ومالك الأرض ، والغاية منه تحسين شروط العمل في القطاع الزراعي ، وحماية الفلاح وضمان كامل حقوقه وتعويضاته ، أي ضمان حقوق أكثر من نصف سكان سورية ، حيث كان عدد العاملين في الزراعة من الفلاحين وعوائلهم يشكل ( 54% ) من حجم السكان وفقاً لما جاء في مذكرات د . بشير العظمة / ص 225 .
وبعده أصدرت حكومة الوحدة قانون الإصلاح الزراعي رقم / 161 / بتاريخ ــا 27 / 9 / 1958 … جاء القانون خاصاً بسوريا / الإقليم الشمالي / ، ولا يسري مفعوله على مصر / الإقليم الجنوبي / ، ذلك أن مصر قد سبقت سوريا بالإصلاح الزراعي منذ سنوات .. وكان قد صدر في مصر القانون الأول رقم / 178 / تاريخ ــا 9 / سبتمبر / 1952 ، وبعده صدر القانون الثاني رقم / 127 / بزمن الوحدة أيضاً في يوليو 1961 لكنه خاص بمصر وجاء تعديلاً لقانون 1952 .. وفيما بعد صدر القانون الثالث رقم / 50 / سنة 1969 ، خفض سقف الملكية إلى / 50 / فدان .. إلا أن القانون الأخير لم يجد طريقاً إلى التنفيذ .
القانون / 161 / الخاص بسوريا جاء مختلفاً عن قوانين الإصلاح الزراعي في مصر ، يعكس مدى الاختلاف في طبيعة القطاع الزراعي بين البلدين ، فلم يحدد كما في مصر سقفاً واحداً للملكية الفردية ، إنما جاء السقف مختلفاً من محافظة إلى أخرى ، وفقاً لاعتبارات مختلفة ( الأراضي المشجرة / البعلية والمروية / معدلات الأمطار ) على الشكل التالي :
1- في الأراضي المروية : ما بين / 15 و 55 / هيكتاراً .
2- في الأراضي البعلية المشجرة : ما بين / 35 و 50 / هيكتاراً
3- في الأراضي البعلية الأخرى : ما بين / 80 و 200 / هيكتاراً ، باستثناء محافظات ديرالزور والرقة والحسكة رفع السقف إلى / 300 / هيكتار ، باعتبارها أقل المحافظات من حيث معدلات هطول الأمطار .
أجاز القانون لكل من ( الشركات المساهمة ، والجمعيات التعاونية ، والشركات الصناعية ، والجمعيات الزراعية العلمية ، والجمعيات الخيرية ) أن تمتلك أكثر من الحد الأعلى المحدد في القانون وفقاً لشروط محددة .
وقد منح القانون للمالك حق التنازل لكل من أزواجه وأولاده وأحفاده الأيتام عن / 10 / هيكتار مروية أو / 30 / هيكتاراً بعلياً ، على ألا يتجاوز مجموع ما يتنازل عنه / 40 / هيكتاراً مروياً أو / 120 / بعلياً ، وهذا يرفع من مستوى السقف المحدد أعلاه .. وما زاد عن ذلك تستولي عليه الدولة خلال عشر سنوات من تاريخ تنفيذ القانون ، مقابل تعويض المالك بما يساوي عشرة امثال بدل إيجار الأرض خلال دورة زراعية كاملة على مدى ثلاث سنوات .. يؤدى التعويض بسندات اسمية على الدولة بفائدة مقدارها ( 1.5 % ) تستهلك خلال أربعين سنة ، وتوزع المساحات المصادرة على الفلاحين ومن يرغب من حملة الشهادة الزراعية وفقاً لشروط معينة ، على ألا تزيد مساحة الأرض الممنوحة للمستفيد عن / 8 / هيكتار في الأراضي المروية أو المشجرة ، وعن ( 30 أو 45 ) هيكتار في الأراضي البعلية حسب معدلات الأمطار ، وأن يؤدي المستفيد ثمن الأرض الممنوحة له للدولة على أقساط سنوية متساوية على مدى عشرين عاماً .. ( الهيكتار = 10.000 متر مربع = 10 دونم = 2.5 فدان ) .
تلك هي أبرز بنود القانون .. وقد بلغ عدد الملاك للأراضي الزراعية الذين شملهم القانون / 3245 / مالكاً فقط من إجمالي عدد الملاكين البالغ / 258681 / مالكاً ، اي بنسبة ( 1.25 % ) فقط في عموم سوريا ..
وطوال فترة الوحدة من بعد صدور القانون لم ينفذ إلا بحدود ضيقة جداً لا تتجاوز 10 % من الأراضي التي يشملها القانون ، وهذا باعتراف أكرم الحوراني في جلسة المجلس النيابي في ــا 8 / 12 / 1962 ، ذلك أن القانون حدد مهلة عشر سنوات لاستكمال تنفيذه .
وإذا ما قورن سقف الملكية الخاصة في كل من الإقليمين فالنتائج مذهلة تعكس مدى الاختلاف بين الإقليمين :
– في مصر :
حدد القانون الأول للإصلاح الزراعي سقف الملكية الفردية بـ / 200 / فدان في عموم مصر يضاف إليها / 100 / فدان لعائلة المالك ( زوجته وأولاده ) ، ليكون الحد الأقصى للملكية العائلية الخاصة / 300 / فدان ، تم تخفيضها بزمن الوحدة بموجب القانون الثاني إلى / 100 / فدان يضاف إليها / 50 / فدان للعائلة ، ليكون الحد الأقصى / 150 / فدان ، وتم تخفيض السقف الإجمالي لاحقاً بالقانون الثالث إلى / 50 / فدان …
– أما في سوريا :
حدد القانون 161 سقف الملكية العائلية في بساتين غوطة دمشق مثلاً بما يعادل / 137 / فدان للمالك وعائلته ، وفي مناطق الجزيرة والفرات بما يعادل / 1050 / فدان .. وما بين هذين الحدين هناك حدوداً أخرى في بقية المحافظات والمناطق .. ( الفدان = 4200 م2 = 4,2 دونم = 0,42 هيكتار ) ( الدونم 1000 م2 … الهيكتار 10 دونم )
بصرف النظر عن التقييم ، .. فالأهم أنه حين صدر القانون استاء المعارضون من ليبراليين وإقطاعيين وكبار مالكي الأراضي والعقارات وغيرهم .. وأطلقوا حملة دعائية مسعورة ضد القانون جملة وتفصيلاً .. وادعوا أن القانون جاء تحقيقاً لرغبة ( الديكتاتور الشيوعي جمال عبدالناصر ) ، وأن من أقنع الرئيس عبدالناصر بالقانون هو الدكتور سيد مرعي ( وزير الزراعة في الحكومة المركزية ) .. لنستمع إلى ما قاله الدكتور سيد مرعي عن هذا الموضوع بعد الانفصال :
( لم أكن موافقا أبدا على تطبيق الإصلاح الزراعي في سورية ، وهذا كان واضحاً في كل التقارير التي وضعتها وليس مجرد ادعاء ، فعندما ذهبنا إلى سورية بناء على طلب أكرم الحوراني ، تناقشنا بهذا الموضوع بصراحة ، وأنا عارضت بشدة تطبيق الإصلاح الزراعي في سورية ، وسُئلتُ يومها كيف توافق على تطبيقه في مصر وتعارض تطبيقه في سورية ؟ أجبت : إن الوضع في مصر مختلف تماماً عما هو في سوريا ، في مصر ( 80 % ) من الأراضي الزراعية مؤجرة للفلاحين ، وفي مصر كل الذي افعله هو أنني أقول للمواطن استمر في عملك وأنا أملكك هذه الأرض بزيادة بسيطة ، وبدلا من أن تدفع القيمة الإيجارية إلى المالك ، ادفعها لما يسمى بالإصلاح الزراعي .. الوضع في سورية كان مختلفا ، المالك السوري هو الذي يزرع ، وهو الذي يستصلح ، وهو الذي يبذل الجهد .. إذا أخذنا الأرض منه فعلى من سنوزعها ؟ .. قانون الإصلاح الزراعي في مصر جاء تثبيتاً لواقع قائم ، وقوننة لحالة موجودة على الأرض .. أما في سورية فكان شكلاً من أشكال التأميم ، وفرض توزيع الأراضي لناس لا يعملون بها بالضرورة ، بل ولناس لا يعملون بالزراعة أساساً ) .
هذا هو الإصلاح الزراعي في سوريا ، لم يأت بقرار فردي ديكتاتوري من قبل جمال عبدالناصر ، إنما جاء لتصفية حسابات طبقية وعائلية بإلحاح من الاشتراكيين البعثيين ، وعلى رأسهم أكرم الحوراني الذي تولى بدولة الوحدة منصب نائب رئيس الجمهورية للشؤون الاجتماعية والسياسية العامة .. وباعتراف أكرم الحوراني بمذكراته / ص 869 / فالقانون تم وضعه من قبل المجلس التنفيذي في سوريا برئاسة الحوراني ، وتم تصديقه من قبل الرئيس جمال عبدالناصر ..
وعندما وقع الانفصال في ــا 28 / أيلول / 1961 ، لم تلغِ حكومة الانفصال قانون الاصلاح الزراعي بشكل صريح كما ألغت قوانين التأميم ، إنما جمدت القانون بداية ، ومن ثم أجرت عليه تعديلات جوهرية بموجب القانون رقم / 3 / تاريخ ــا 20 / 2 / 1962 ، بتوقيع الرئيس ناظم القدسي خلال حكومة الدكتور معروف الدواليبي ، وبتشجيع وزير الزراعة آنذاك ” جلال السيد ” إلا أن التعديل كما ذكر الدكتور بشير العظمة في الصفحة 228 من مذكراته : (( كان في حقيقته إلغاءً كاملاً للإصلاح الزراعي ، فقد أصبح بإمكان العائلة المالكة الاحتفاظ بـ / 600 / هكتار في مناطق هطول معدلها / 500 / مم سنوياً )) ، (( وكانت الحكومة الجديدة قد انتهجت سياسة إعادة النظر الجذرية بقانون الإصلاح الزراعي ، فجمدت فعلياً العمل بتطبيق القانون … ومن ثم بدأت عملية استرداد كبار الملاك لمزارعهم وأراضيهم قبل أن يصدر قانون تعديل ( إلغاء ) قانون الإصلاح الزراعي ، وصلت عملية التفكيك إلى ذروتها في 22 شباط 1962 ، حين تم إلغاء قانون الإصلاح الزراعي تحت اسم تعديله )) ص / 710 من كتاب ” التكون التاريخي للجزيرة السورية ” … (( وأدى تعديل القانون ، وبالأحرى إلغاؤه إلى نقصان عدد المشمولين بالإصلاح الزراعي من 3245 مالكاً إلى مئة مالك فقط )) ص / 711 .
إلا أنه بعد انقلاب ــا 8 / آذار / 1963 ، انتهجت حكومة البعث سياسة جديدة ، بدأتها بإصدار المرسوم رقم / 88 / تاريخ ـا 23 / 6 / 1963 ، أجرت بموجبه تعديلات أخرى على القانون ، وبدأت حملة موسعة لاستملاك الأراضي الزراعية ، توجتها سنة 1967 بمصادرة كل أملاك ومشاريع شركة أصفر ونجار في منطقة الجزيرة .
تلك باختصار هي قصة التأميم والإصلاح الزراعي في سوريا بزمن الوحدة .. وتلك هي الحقيقة موثقة بالمستندات والأدلة القاطعة .. ظلت عقوداً من الزمن .. ولا زالت .. أسيرة في أرشيف الوثائق والمستندات الرسمية .. وفي خزائن الكتب والمكتبات بما كتبه المختصون من أبحث ودراسات .. خلف ستائر التعتيم والتزييف التي نسجها معارضوا جمال عبدالناصر وخصوم دولة الوحدة ، حيث نسبوا زوراً وبهتاناً إلى زمن الوحدة كل سلبيات التأميم والإصلاح الزراعي التي انتهجتها حكومات حزب البعث خلال حقبة الستينات ، لتختلط الأمور بأذهان الناس في الشارع السوري .. ولتبدو الصورة مشوهة أمام جيل جديد لم يعاصر تلك المرحلة ، ولم يُجهد نفسه بالبحث عن الحقيقة ، واكتفى بما يسمع من شائعات وافتراءات في مجالس القال والقيل .. وللأسف أصبح اليوم يرددها ويُسَطّرها على صفحات الفيسبوك إنشاءً أدبياً أجوفاً عداءً للوحدة ولعبدالناصر .. دون أي سند أو دليل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث :
– المرحلة الانتقالية في سوريا / عهد الوحدة / د . بدر الدين السباعي .
– أبحاث في الاقتصاد السوري والعربي / د . هشام متولي .
– صفحات من تاريخ الاحزاب السياسية في سوريا القرن العشرين / عبدالله حنا .
– التكون التاريخي للجزيرة السورية / محمد جمال باروت .
– مذكرات الدكتور معروف الدواليبي .
– مذكرات الدكتور بشير العظمة .
– مذكرات أكرم الحوراني .
– الصراع على سوريا / باتريك سيل .
– أبحاث ودراسات وملفات وثائقية مختلفة .
2٬274 15 دقائق