طوال التاريخ البشري، تجسس الناس على بعضهم بعضا. ولمعرفة ما يفعله الآخرون أو يخططون لفعله، استخدم الناس المراقبة، والملاحظة، والتنصت -باستخدام أدوات تتحسن باستمرار، وإنما التي لم تحل أبداً محل أسيادها البشر. والآن، يعمل الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة ذاتية التشغيل على تغيير كل ذلك. في المستقبل، سوف تتجسس الآلات على الآلات لمعرفة ما تفعله هذه الأخرى أو تخطط لفعله. وسوف يستمر عمل الاستخبارات في سرقة الأسرار وحمايتها، لكن الطرق التي يتم بها جمع هذه الأسرار، وتحليلها وتوزيعها ستكون مختلفة اختلافًا جوهريًا.
أدرك المستقبليون العسكريون حدوث تغيير جذري مشابه حين وصف البعض صعود أنظمة الذكاء الاصطناعي والأسلحة التي تعمل ذاتياً بأنه “ثورة في الشؤون العسكرية”. ويمكن فهم نظيره في الاستخبارات على أنه “ثورة في شؤون المخابرات” أيضاً. فمن خلال روبوتات الذكاء الاصطناعي المقبلة، ستصبح الآلات أكثر من مجرد أدوات لجمع المعلومات وتحليلها. سوف تصبح مستهلِكات للاستخبارات، وصانعات قرار، وحتى أهدافًا لعمليات استخبارات آلية أخرى. وسوف يظل الشغل الشاغل لهذه الآلات هو تعقب العلاقات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية والعسكرية للبشر -لكن الذكاء الذي تحركه الآلة سيعمل بدرجة من السرعة والحجم والتعقيد لا يمكن أن يجاريها الذكاء البشري. ليس هناك ما يوقف الذكاء الاصطناعي الروبوتي. وقد أطلقته قوى الابتكار التكنولوجي والمنافسة مسبقاً على العالم. ولذلك، يجب على مجتمع الاستخبارات الأميركي أن يتبنى الذكاء الاصطناعي الروبوتي ويستعد لمستقبل يهيمن عليه هذا الذكاء -وإلا فإنه ربما يخاطر بفقدان ميزته التنافسية.
صعود الذكاء الآلي
لا تأتي الثورات من العدم. وتعود أصول الذكاء الاصطناعي الروبوتي إلى القرن العشرين، عندما حملت التقنيات الجديدة، مثل الاتصالات السلكية واللاسلكية والحوسبة، تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى آفاق جديدة من التطور. وقد ظل البشر وكلاء الاستخبارات، لكنهم اعتمدوا، بدلاً من المشاهدة بأعينهم، والاستماع بآذانهم، والتحليل والتنبؤ بعقولهم، على أجهزة استشعار وأدوات حوسبة تزداد قوة باطراد لتعزيز قدراتهم.
وقد تسارع هذا الاتجاه على مدار الأعوام العشرين الماضية، ما أدى إلى زيادة هائلة في كمية البيانات المتاحة لوكالات الاستخبارات. الآن، تنتج أجهزة الاستشعار السرية والتجارية، بدءًا من الروبوتات على الشبكات، إلى الطائرات ذاتية التحكم من دون طيار إلى الأقمار الصناعية الصغيرة في الفضاء، كماً من المعلومات أكثر مما يمكن للبشر أن يفهموه بمفردهم. وفي العام 2017، توقعت الوكالة الوطنية للاستخبارات الخاصة بالجغرافيا المكانية أن البيانات التي سيتعين على محلليها تحليلها ستزيد بمقدار مليون ضعف في غضون خمسة أعوام. وأدى وجود هذا الكم الكبير من البيانات بهذه السرعة إلى منافسة شرسة على فهمها كلها -وهي دينامية أدت بدورها إلى تبني الأتمتة، والتحليل المنهجي للبيانات الضخمة، واستخدام الذكاء الاصطناعي. والضغط من أجل المواكبة هائل: سوف تكون للدول التي تستطيع وكالاتها الاستخباراتية معالجة كميات هائلة من البيانات المعقدة بسرعة ميزة على تلك التي لا تستطيع ذلك.
الثورات لا تأتي من العدم
أدى التحول الموازي نحو الأنظمة المستقلة والذكاء الاصطناعي بين جيوش العالم إلى تكثيف الضغط التنافسي: يجب أن تكون وكالات الاستخبارات قادرة على استهداف ودعم أنظمة القتال المتقدمة. ويدير الجيش الأميركي مسبقاً أكثر من 11.000 نظام جوي من دون طيار، بل وحتى أنظمة تحت الماء، وفي الفضاء وعلى الأرض. وإضافة إلى ذلك، يجب أن تتعامل وحدات الأمن السيبراني الأميركية مع ملايين الروبوتات على الشبكات العالمية، إضافة إلى مليارات أجهزة إنترنت الأشياء التي تعمل كمستشعرات. وتتطلب هذه الأنظمة التي تتكاثر باستمرار أن يكون لها ذكاؤها الخاص حتى تعمل، ما يعني أنها ستصبح، بمرور الوقت، عملاء الاستخبارات الأساسيين.
بل إن الأكثر ثورية هو التحول إلى الأنظمة المستقلة ذاتية التشغيل كأهداف استخباراتية -أي عندما تبدأ الآلات في التجسس على الآلات الأخرى وخداعها. وقد يتضمن سيناريو مستقبلي يمكن تصوره نظام ذكاء اصطناعي مكلف بتحليل سؤال معين، مثل ما إذا كان الخصم يستعد للحرب. وقد يقوم نظام ثانٍ، يديره الخصم، بحقن بيانات موجهة عن عمد في النظام الأول من أجل إفساد تحليله. بل إن النظام الأول قد يدرك الحيلة ويحسب حساب البيانات الاحتيالية، بينما يتصرف كما لو أنه لم يفعل -وبالتالي يتمكن من خداع المخادع. ولطالما كان هذا النوع من خداع “التجسس مقابل التجسس” جزءا من عمل الاستخبارات، لكنه سيحدث قريبًا بين أنظمة مستقلة تعمل بذاتها تمامًا. وفي مثل هذه الحلقة المعلوماتية المغلقة، يمكن أن تحدث الاستخبارات والاستخبارات المضادة من دون تدخل بشري.
لفهم ما هو على المحك، فكِّر في تشبيه من العالم المالي. هناك، تعتمد أنظمة التداول الكمي عالية السرعة على الخوارزميات التي تستشعر التغيرات في أسواق الأسهم العالمية، وتحلل كميات ضخمة من البيانات للوصول إلى تنبؤات، ثم تقوم بتنفيذ الصفقات تلقائيًا في غضون ميكروثانية. ولا يمكن للبشر العمل في أي مكان قريب من السرعة والحجم نفسهما. ومن أجل مواكبة المنافسة، تعتمد حتى أكثر شركات الاستثمار قوة على أنظمة التداول الكمية بشكل متزايد. وللتنافس مع بعضها بعضا على الأسرار، ستحتاج وكالات الاستخبارات بشكل متزايد إلى الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة أيضًا.
تكييف مجتمع الاستخبارات
بينما أصبحت الآلات هي الجامعين والمحللين والمستهلكين الأساسيين والأهداف للاستخبارات، سوف يحتاج مجتمع الاستخبارات الأميركي بأكمله إلى التطوير. ويجب أن يبدأ هذا التطوير بوضع استثمارات هائلة في الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الأنظمة ذاتية التشغيل، إضافة إلى إحداث تغييرات في مفاهيم العمليات التي تمكّن الوكالات من معالجة كميات ضخمة من البيانات وتوجيه الناتج الاستخباري مباشرة إلى آلات مستقلة. وبينما يصبح كل شيء عمليًا متصلاً عبر الشبكات التي تنتج شكلاً من أشكال التواقيع أو البيانات الكهرومغناطيسية، سوف تحتاج استخبارات الإشارات على وجه الخصوص إلى أن تكون مركزًا لتطور الذكاء الاصطناعي. وكذلك حال الاستخبارات الجغرافية-المكانية. فمع انتشار الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار الأخرى، سيصبح كل شيء على الأرض قريبًا مرئيًا في جميع الأوقات من أعلى، وهي ولاية أطلق عليها مركز الأبحاث والتطوير الفدرالي “إيروسبيس” اسم “تفرد الاستخبارات الجغرافية” GEOINT Singularity. ولمواكبة كل هذه البيانات، ستحتاج الاستخبارات الجغرافية-المكانية، مثل استخبارات الإشارات، إلى تعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي بشكل جذري.
ينقسم مجتمع الاستخبارات الأميركية حاليًا إلى وظائف مختلفة، والتي تجمع وتحلل أنواعًا منفصلة من المعلومات الاستخبارية، مثل الإشارات أو الاستخبارات الجغرافية المكانية. وقد يجبر الذكاء الروبوتي الاصطناعي مجتمع الاستخبارات على إعادة تقييم ما إذا كانت هذه التقسيمات ما تزال منطقية. فالمعلومات الكهرومغناطيسية هي معلومات كهرومغناطيسية، سواء أتت من قمر صناعي أو جهاز لإنترنت الأشياء. ولا يهم التمييز في الأصل كثيرًا إذا لم يكن إنسان هو الذي ينظر إلى البيانات الأولية، وحيث يمكن لنظام الذكاء الاصطناعي التعرف على الأنماط في جميع البيانات في وقت واحد. وبالمثل، سوف يتآكل الفاصل بين الاستخبارات المدنية والعسكرية، لأن البنية التحتية المدنية، مثل أنظمة الاتصالات السلكية واللاسلكية، ستكون ذات قيمة كأهداف عسكرية تماماً مثل أنظمة الاتصالات العسكرية. وبالنظر إلى هذه الحقائق، قد يؤدي فصل وظائف الاستخبارات إلى إعاقة العمليات الاستخبارية بدلاً من مساعدتها.
قد يتطلب الذكاء الاصطناعي الروبوتي إنشاء منظمات جديدة أيضًا. فإذا كان الإنسان الفردي ذات مرة هو اللبنة الأساسية للاستخبارات، فإن هذه الميزة أصبحت تنتمي الآن إلى الآلة -قطعة من برنامج حاسوبي، على سبيل المثال، أو جهاز استشعار، أو طائرة ذاتية القيادة من دون طيار. وسوف يزداد اعتماد الاستخبارات باطراد على هذه الأجهزة، ما يعني أن التجسس لن يقتصر فقط على الأجهزة نفسها، وإنما أيضًا على المصممين والمطورين وسلاسل التوريد التي تنتجها. وفي المستقبل القريب، سيكون فهم الذكاء الاصطناعي وتقنية الأنظمة المستقلة وسلاسل التوريد ورأس المال الاستثماري بنفس أهمية التي كان عليها فهم الأيديولوجية الإسلامية الأصولية في الماضي. وقد تحتاج الولايات المتحدة إلى منظمات جديدة لدراسة هذه المجالات. وكحد أدنى، سوف تحتاج إلى توسيع مديريات الاستخبارات الاقتصادية والتكنولوجية الحالية، تمامًا كما وسعت وحدات مكافحة الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر).
في حين يتطور مجتمع الاستخبارات الأميركية ويتحول إلى احتضان الذكاء الاصطناعي الروبوتي، فإنه سيحتاج إلى الحد من قدرة خصومه على فعل الشيء نفسه -خاصة عن طريق إبطاء وإيقاف قدرتهم على إتقان الاستخبار الذي تديره الآلة. وسوف تصبح أهمية إعاقة تصميم وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة للخصوم أكثر أهمية باطراد. وسوف يتطلب هذا عملياً سرياً -الذي تقوم بجزء منه الآلات نفسها. على سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة ضخ بيانات خاطئة في نظام التعلم الآلي للخصم، من أجل خداع أو تعطيل نظام الذكاء الاصطناعي الأكبر لهذا الخصم.
ولكن، مثلما ستستهدف الولايات المتحدة أنظمة الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة لخصومها، فإن أجهزة الاستخبارات المعادية ستستهدف الأنظمة الأميركية. ونتيجة لذلك، سوف تحتاج الولايات المتحدة إلى بناء دفاعات جديدة، وأشكال جديدة من الاستخبارات المضادة. وللمنافسة، سوف يحتاج ضباط الاستخبارات المضادة إلى استخدام طريقة “الخدعة بالخدعة” نفسها التي اعتمدوا عليها دائمًا، لكنهم سيحتاجون أيضًا إلى المزيد من الخبرة الاقتصادية والتقنية أكثر من أي وقت مضى. وبشكل عام، ستفرض تقنيات الذكاء الاصطناعي الروبوتي التغيير على كل مستوى من مستويات الاستخبارات، بما في ذلك المنظمات، والتدريب، والتكنولوجيا، ومفاهيم التشغيل والاستخبارات المضادة.
الثورة تبدأ بالناس
قد تتوقف عمليات جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها عن أن تكون مهمة بشرية بشكل حصري -أو حتى أساسي، لكنّ الهدف النهائي منها سيظل فهم الحكومات والمجتمعات والجيوش التي يقودها البشر. وعلاوة على ذلك، سوف يجلب البشر الإبداع والتعاطف والفهم والتفكير الاستراتيجي إلى عمل الاستخبارات، الأمر الذي من غير المرجح أن تضاهيه الآلات في أي وقت قريب. ونتيجة لذلك، سوف تظل لرؤساء الأقسام وموظفي الحالة والمحللين أدوار مهمة ليلعبوها لفترة طويلة في المستقبل -ولو أن طبيعة وظائفهم قد تتغير.
ومع ذلك، فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي الروبوتي مقبلة، وسيتعين على مجتمع المخابرات التكيف معها واحتضانها. وكانت مقاومة التغيير قد تسببت في حدوث كوارث في الماضي -على سبيل المثال، عندما رفضت البحرية الأميركية استبدال السفن الحربية بحاملات الطائرات قبل الحرب العالمية الثانية. وكان يقود البحرية بحارة لم يستوعبوا التقدم الهائل في القوة الجوية، وهو ما كان من شأنه أن يسمح لليابان بشن الهجوم الجوي المدمر على بيرل هاربور. وبالمثل، فإن الذي يدير مجتمع الاستخبارات بشكل أساسي هم جواسيس بشريون قد لا يرون (أو يقبلون) دائمًا حتمية قدوم الذكاء الآلي. ويجب على وكالات الاستخبارات كسر الحواجز الثقافية، والاستثمار في التكنولوجيا، وتخصيص مكاتب كاملة للذكاء الاصطناعي والاستخبارات القائمة على الأتمتة. وإذا رفضت الولايات المتحدة التطور، فإنها تخاطر بمنح الصين -أو أي خصم آخر- ميزة تكنولوجية لن تتمكن واشنطن من التغلب عليها لوقت طويل.
*Anthony Vinci: هو رئيس تنفيذي سابق للتكنولوجيا والمدير المساعد لـ”قدرات وكالة الاستخبارات الجغرافية المكانية الوطنية”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Coming Revolution in Intelligence Affairs
المصدر: (فورين أفيرز) / الغد الأردنية