خالد خليفة روائي سوري متميز، مبدع، مواظب على اتحافنا بأعمال روائية متتابعة، قرأت اغلب انتاجه. دفاتر القرباط، مديح الكراهية، لا سكاكين في مطابخ المدينة، الموت عمل شاق، وهذه لم يصلّ عليهم أحد.
لم يصلّ عليهم أحد رواية مركبة، تمتد على حقبة زمنية تصل الى قرن من الزمان، تقريبا، تغطي مرحلة مهمة ومفصلية في تاريخ بلاد الشام وخاصة مدينة حلب ومحيطها، تبدأ أحداثها في أواخر العصر العثماني حوالي ١٨٨١م ثم الاستعمار الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى عام١٩٢٢م، وبداية الحكم الوطني السوري ١٩٤٦حتى تنتهي احداثها في عام ١٩٥١م.
تتحدث الرواية شبكيا عن حياة ابطالها ومحيطهم الاجتماعي، تفاصيل الحياة اليومية المعاشة عند الكل، الجوانب الاجتماعية والنفسية والعاطفية والتفاعلية، على كل المستويات. تعيد الرواية الحياة لتلك المرحلة من خلال حياة البشر فيها. ذاتهم اشواقهم حبهم، عقدهم، إيمانهم، عاداتهم، أهواءهم، همومهم، هواجسهم، نعيش التاريخ كحياة نتابعها أمامنا بكل تفاصيلها، ومع امتداد زمن التفاعل مع الرواية، العلاقة تصبح حميمية بيننا كقراء وبين أبطال الرواية. ننتهي من الرواية وقد تشبعنا بتلك المرحلة وناسها وحكاياتهم.
تبدأ الرواية من لحظة تاريخية عند عام ١٩٠٧م حيث طاف نهر الفرات المجاور لقرية صغيرة اسمها حوش حنا القريبة من مدينة حلب السورية وابتلعها كلها، لم يبقى حيا من ساكنيها سوى امرأتين شاها زوجة زكريا البيازيدي ومريانا احدى نساء البلدة. كانت قد بنيت القرية على أرض يملكها حنا كريكورس، وهو ورثها عن والده، حنا يملك أراض شاسعة جدا تمتد على آلاف الدونمات، كان بنى البلدة لعائلته وعائلة صديقه زكريا البيازيدي و للفلاحين الذين يعملون في اراضيه مع عائلاتهم. كان من الذين ماتوا غرقا في ذلك الطوفان زوجة حنا وابنه، كذلك ابن صديقه زكريا، ونجت زوجته زكريا شاها. نجا حنا وزكريا لأنهما كانا خارج البلدة اثناء الطوفان. باشر حنّا وزكريا، مع الكثير من أهل القرى المجاورة في دفن الموتى باسرع وقت. كان الطوفان قاسيا جدا على نفسية حنا الذي فقد زوجته وابنه الصغير، كانت صفعة قاسية من الحياة له ولصديقه الذي فقد ابنه الصغير. دفنوا موتاهم وغادروا القرية الغرقى.
بعد ذلك تعود الرواية الى عقدين ونصف من الزمن الى الخلف تقريبا، عام ١٨٨١م، متحدثة عن حياة حنا وزكريا. متابعة حياة حنا الذي كان طفلا عمره حوالي العشر سنوات، يعيش مع عائلته في بلدة ماردين وما اصاب عائلته من ذبح وتقتيل، ولم ينجو إلا هو. كان كريكورس والد حنا قد اُتّهم بأنه ساهم بقتل ضابط عثماني حاول التعدي على احدى الفتيات في المدينة، وما كان من أهل المدينة إلا أن قتلوا الضابط ومثلوا بجثته وألقوه أمام السرايا العثماني. كان رد العثمانيين قاس جدا، قاموا بقتل وذبح الكثير من العائلات المسيحيّة ومنهم عائلة كريكورس والد حنا، الذي كان أحد اكبر الملّاك في ماردين وما حولها. تم انقاذ حنا وتهريبه من المدينة باتجاه حلب حيث هرّبته احدى خادمات عائلته، اوصلته الى منزل احمد البيازيدي صديق كريكورس والد حنا وشريكه في الأعمال. وصل الى بيت العائلة ومن تلك اللحظة اعتبره بمثابة ابنه، حافظ عليه. كانت علاقاته مع دوائر العثمانيين كبيرة، قرر ان يحضن الطفل الوحيد الناجي من عائلته، وان يعمل لكي يسترد أملاكه المحتجزة من العثمانيين ويعيدها إليه أولا بأول. عاش حنا في منزل احمد البيازيدي، في صحبة ابنه زكريا ، فهما من عمر واحد، كذلك مع ابنته سعاد التي تصغرهما قليلا. لم يتأخر الطفل حنا بالتأقلم مع أجواء عائلة البيازيدي، وسرعان ما اصبح الاطفال الثلاثة حنا وزكريا وسعاد بمثابة اخوة متعايشين .
لم يكن حنا المسيحي وزكريا المسلم يقفان عند هذا التفصيل في حياتهم، لنقل لم يكونوا يهتموا لذلك، أما خادمة حنا المسيحية التي انقذته. فقد ظلّت تخاف ان يدفعه احمد البيازيدي حنا للإسلام. استمرت تزرع في ذهن حنا منذ طفولته انه مسيحي وانه يجب ان يحافظ على دينه وتمطر عليه بالحكايا دائما. أما هو فلم يكن يهتم لذلك مطلقا. ادخل أحمد البيازيدي حنا وابنه زكريا وابنته سعاد المدارس و بدؤوا يتعلمون. كان في داخل حنا وزكريا شقاوة الطفولة حاضرة قويّة وحيويّة. أصبح حنا صديقا لاصدقاء زكريا في الحي حيث يسكنون في حلب، عازار وسارة اليهوديان ووليم المسيحي، كبر الصحبة وبدؤوا الدخول في طور المراهقة. تعلموا بعض فنون القتال وحملوا السكاكين ليثبتوا رجولتهم المبكرة. صاروا يبحثون عن المتعة والاشباع الجنسي، حاولوا التلصص على النساء في الحمام العمومي للمدينة، مستعينين بصديقهم ابن المسؤول عن الحمام. كُشف أمرهم، اعتقلتهم الشرطة بعد صدام معهم، تدخل أحمد البيازيدي واخرجهم من الحجز. أصبحوا مشهورين في حلب بفتوتهم و تكتلهم كأصدقاء يتحركون للحصول على المتع. وكان نضجهم الحقيقي عندما هرب زكريا وحنا من حلب وتوجهوا إلى مدينة البندقية وهناك اكتشفوا ملذات الجسد جنسيا، اخذوا بعض الذهب من بيت والد زكريا مصروفا لهم، عاشوا هناك ستة أشهر نضجوا فيها واكتشفوا نوازعهم وقرروا أن يشبعوها. اكتشف زكريا شغفه في الأحصنة العربية الاصيلة. عاد ومعه فرسان أصيلتان، سيبقى يحب و يربّي الخيول حتى أواخر حياته بعد عقود طويلة من السنين. أما حنا فقد اكتشف عوالم الجسد والجنس وادمن البحث عن الملذات دائما. عاد حنا وزكريا الى حلب مجددا اكتشف والد زكريا انهم اصبحوا شبابا، لم يلمهم كثيرا. بدأ حنا يسترد املاكه اولا بأول، أدرك حنا انه ينام على مال متدفق دوما، خيرات ارضه من الحبوب والزيت والزيتون وغير ذلك من المحاصيل، لذلك لم يكن يكترث الى حياته ومجونه وصرفه للمال. عاد واكتشف ان سعاد الصفيرة اخت زكريا التي كانت بمثابة أخته قد كبرت مثله. وان هناك عاطفة قوية تشده لها. خاف أن يعترف لنفسه انه يحبها. وهي ايضا اكتشفت انه لم يعد اخاها بل حبيبها. خاف من التقرب منها. وفاء إلى العائلة التي تبنته وانقذته، ووفاء لصديقه زكريا اخوها. وايضا لاحساسه بأن فارق الدين بينهما يزيد صعوبة الحب الذي يعيشه. صحيح أنه لم يكن يهتم إلى كونه مسيحي من داخل نفسه. لكنه كان وفيا للكنيسة و مطرانها، وكان يغدق عليهم بالعطاء؛ للكنيسة وفقراء المسيحيين. ترك المسافة بينه وبين سعاد قائمة ولا يتجاوزها خاف أن يبوح بعواطفه اتجاهها. عاش مع صديقه زكريا مجونه الدائم وبقي حبه داخل نفسه منصب على سعاد التي كانت أكثر شجاعة منه في التعبير عن الحب، لكنه كان يصدّها دوما. كان يعاشر النساء في دور الدعارة المنتشرة في المدينة باحثا عن ذاته التي امتلكتها سعاد. كان المطران وخادمته التي استمرت ملازمة له، يطالبونه بضرورة الزواج، تزوج من جوزفين التي كانت تتردد على قداس الاحد، حدثها وقبلت الزواج منه. تقبلت جوزفين حياة زوجها الماجنة، سواء تردده الدائم على دور الدعارة، او المقامرة التي يصرف فيها الكثير من أمواله. طبعا كل ذلك بصحبة زكريا صديق عمره. عندما وصل حنا إلى عمر العشرين سنة أعيدت له أملاكه كاملة، واتفق مع زكريا واصدقائه الاخرين على ان يبني قلعته الخاصة على أرضه لتكون مرتعا لأهوائهم . خططوا بناء القلعة خطوة خطوة وبنوها اولا وبأول، وبعد انجازها اسموها قلعة زهر الرمان. وقرروا الانتقال للعيش فيها. في هذه الفترة من حياة حنا وزكريا، حصلت علاقة حب قوية بين صديقهم وليم وعائشة إبنة المفتي، رغم اختلاف الدين بينهما، كانا يلتقيان دائما برعاية حنا وزكريا. لكن حصل في حياة عائشة امرا قلب حياتها، حيث شاهدها صدفة احد الضباط الأتراك فأعجبته، قرر خطبتها من والدها، الذي لم يكن امامه الا ان يقبل بالخطبة، وعاشت عائشة ووليم امتحان نفسي واجتماعي خطير، وقرر حنا وزكريا مساعدة صديقهم وليم وحبيته عائشة واتفقوا على أن يساعدوهم في الهروب من حلب إلى بيروت ومنها إلى عدن والمستقر فرنسا ليتزوجا هناك. لكن الأقدار كانت مختلفة، فقد كان حنا قد فرّغ احد فلاحيه لنقل المرسال اليومي بين وليم وعائشة. ولطول فترة المهمة تعلم الفلاح القراءة والكتابة، تجرأ وفتح الرسائل، وأحب عائشة دون ان يراها. قرأ الرسائل ودونها، اصبح يحفظها ويرددها هائما، عشق عائشة واعتبر وليم والضابط العثماني منافسين له في حب عائشة وقرر أنه هو من يجب ان يتزوج بها مهما كلفه الأمر. كان يتابع خطة حنا وزكريا لتهريب العاشقين وليم وعائشة، وبالفعل هربهم حنا الى ارضه. وقبل أن ينتقلا منها، اسقط في يد الفلاح واوشى بمكان تواجدهم للضابط بعد أن اخبره حكايتهما حتى يوغر صدره لعله يقتل وليم ويترك عائشة دون ان يتزوجها ذلك الضابط لانها هربت مع مسيحي. وتكون بعد ذلك للفلاح بعد تخلصه من الغريمين. لكن الضابط هاجم المكان المختبئين فيه وقتل وليم وعائشة. كان ذلك قاسيا، وشكل ازمة على نفسية حنا وزكريا. حفروا قبران في أرض حنا بجوار القلعة التي بنوها و دفنوهما هناك سوية. دون الحاجة لمرجع ديني مسيحي او مسلم. كان لمقتل عائشة انعكاس قاس على الفلاح، ندم على وشايته عليهم، زاد شغفه بعائشة المقتولة، قرر ان يقتل الضابط العثماني لأنه حرمه من حبيبته عائشة. أما الضابط فقد طلب نقله الى اسطنبول هربا من الانتقام المسيحي والإسلامي على جريمته. خاصة ان المسيحيين كانوا قد اصبحوا تحت الحماية الاجنبية من الدول الاوربية، وخوفا من ردة فعل الناس عليه وعلى الحكام العثمانيين. انتقل الضابط الى اسطنبول، الفلاح لم ييأس استمر يلاحقه الى هناك، رصده طويلا، ومن ثم قتله وعاد الى حلب، اصبح يتجول هائما في شوارعها مرددا رسائل عائشة اشعارا وكأنه مريد صوفي. اصبح مشهورا وله أتباع وسمي سلطان العاشقين. وفي يوم ارتقى مئذنة جامع وبدأ ينشد أشعار عائشة، اجتمع الناس حوله يسمعون و يرددون أشعاره معه. حاولوا الصعود لإنزاله وانقاذه خوفا من أن يلقي بنفسه. لكنه شنق نفسه على قمة المئذنة مطوبا نفسه سلطانا للعاشقين. وهنا انتهت حكايته.