ركائز الهيمنة الأميركية: الدولة العميقة والسوق العميقة

بلال خبيز

يميل معظم التحليل الاقتصادي المتداول إلى التركيز على حجم الدين العام الأميركي، أو نسب العجز، أو دور الاحتياطي الفيدرالي كفاعل مركزي في صياغة السياسة النقدية. غير أن هذا النوع من التحليل يغفل مراقبة الهيكل الأعمق الذي يقوم عليه الاقتصاد الأميركي، والذي يمكن تسميته باقتصاد التدفقات المالية (Flow-Based Economy)، أي المنظومة التي تجعل الولايات المتحدة تمتلك سيولة عالمية يومية تتجاوز بكثير أي مقياس مرتبط بميزانيتها أو بمديونيتها الرسمية. فمتانة الاقتصاد الأميركي لا تستند حصراً إلى قوة الحكومة أو البنك المركزي، بل إن هذا الاقتصاد يستمد قوته التراكمية من كونه النقطة المركزية التي تمر عبرها حركة الدولار في العالم.

البنية المعمّقة لهيمنة الدولار
الدولار ليس مجرد عملة محلية، وهذا معروف، فالدولار هو وحدة التسوية العالمية في مجالات تجارة الطاقة، والمشتقات المالية، والتجارة البينية بين الدول، وعقود التحوط، فضلا عن أسواق السلع، وتمويل التجارة (Trade Finance). وعلى الرغم من التوجهات العالمية للتنويع في تسعير وتسوية هذه المجالات، فإنه حتى الآن لم تظهر منظومة مالية بديلة تمتلك سيولة مكافئة لسيولة الدولار، أو عمقاً في أسواق الدين، أو مصارف مراسلة على نطاق عالمي، فضلاً عن الثقة المؤسساتية، وفعالية البيئة القانونية التي تحمي العقود والملكيات ومرونتها.

نظام المقاصة الأميركي
يُدار الجزء الأكبر من تدفقات الدولار العالمية عبر نظام المقاصة الفورية للاحتياطي الفيدرالي، (FEDWIRE). ونظام المقاصة الخاص لمدفوعات الدولار (CHIPS) والمصارف المراسلة في نيويورك (CITIBANK, JPMORGAN, BNY MELLON). وهذا يعني أن معظم الدولارات المتحركة بين الدول تمر، لوقت ما، عبر الولايات المتحدة، حتى حين لا تكون الولايات المتحدة مشاركة في هذه الصفقات. وهذا يمنحها امتيازاً لا يتحقق لأي دولة في العالم، حيث تصبح هذه الأموال العابرة (TRANSIT LIQUIDITY) أداة قوة خفية لا تستطيع أي دولة أخرى منافستها، بل إن تعاظم تجارة أي دولة في العالم تنعكس إيجاباً على قدرة الولايات المتحدة في استخدام أداة القوة هذه، عبر تضخمها بسبب تعاظم تجارة الدول الخارجية.
الأموال العابرة هي تلك التي تمر عبر المصارف الأميركية، من دون أن تكون مملوكة لها، ثم تعود للخروج إلى وجهتها النهائية بعد ساعات أو أيام. وخلال هذه الفترة القصيرة تصبح جزءاً من السيولة المتاحة داخل السوق الأميركي. ويتم استثمار هذه السيولة عبر نشاط المصارف في إعادة تدوير هذه التدفقات من خلال عمليات (REPO)، والإقراض الليلي (OVERNIGHT LENDIDNG)، وسندات الخزينة قصيرة الأجل، إضافة إلى التمويل المضمون (COLLATERALIZED FUNDING). وفي النتيجة تتحول هذه التدفقات الخارجية إلى أرباح داخلية من دون أن تشكل أي عبء ديني طويل الأجل.
يتراوح حجم هذه السيولة العابرة ما بين 3 و7 تريليونات دولار، وهو مبلغ لا ينعكس في الحسابات الوطنية الأميركية، لكنه ينعكس إيجاباً في حجم السيولة المتاحة في نيويورك. وهذا ما يمنح الاقتصاد الأميركي ميزة لا تملكها الدول الأخرى. فاقتصادات الدول الأخرى تعتمد على احتياطياتها حصراً، فيما يعتمد الاقتصاد الأميركي في جزء منه على التدفقات. وفي الدول الأخرى تكون السيولة قيمة ثابتة، فيما تكون السيولة متجددة في الاقتصاد الأميركي مثل تيار كهربائي لا ينقطع.
واقع وجود تدفق ضخم ومستمر من الدولار يخلق طلباً دائماً على سندات الخزينة، وسيولة فائضة في أسواق المال، فضلاً عن ضغط تخفيضي على معدلات الفائدة على القروض قصيرة الأجل. وعليه، تستطيع الحكومة الأميركية الاستدانة دائماً بميزة تنافسية لا يمكن مماثلتها عملياً.

ما الذي يعنيه كل هذا للمصارف الخاصة؟
المصارف الخاصة، وبسبب من هذا التدفق الهائل في الأموال العابرة، تستطيع تحقيق ربح من تدوير هذه الأموال واستيفاء الرسوم على المقاصة والاستفادة من منحنى العائد القصير، وهذا ما يساهم في خلق قطاع مصرفي فائق الرسملة، الأمر الذي يعزز بدوره قوة الاقتصاد ومتانته. ويساهم مساهمة فاعلة في تعزيز الطلب الدولي على الدولار، فحتى لو أرادت الصين أو روسيا أو دول الخليج أن تخفض استخدام الدولار، فإن العقود طويلة الأجل، وشبكات المصارف المراسلة، والقدرة على تتبع العقوبات، فضلاً عن البيئة القانونية، وعمق الأسواق وسرعة تجاوب المقاصة، إضافة إلى التكلفة المنخفضة للمعاملات، تجعل الدولار عملة لا غنى عنها في التعاملات الدولية.

علاقة ما تقدم بقدرة الولايات المتحدة على تحمل الدين
ليس خافيا أن الدين الأميركي محلي بمعظمه، فأكثر من ثلثي سندات الخزانة مملوكة لجهات أميركية، بينها الاحتياطي الفيدرالي نفسه، وصناديق التقاعد، وشركات التأمين، والمصارف، وصولا إلى الأفراد. وهذا يقلل من مخاطر العزوف الخارجي إلى حد كبير. خصوصاً وأن الاحتياطي الفدرالي قادر على فرض قواعد حيازة السندات، ويفرض على المصارف نسبة الاحتفاظ باحتياط إلزامي منها، ويمكنه تحديد نسب دنيا من حيازة أدوات الخزانة، وإقرار تنظيم السيولة، وتفعيل آليات التفتيش المصرفي. فضلاً عن قدرته على تعديل متطلبات رأس المال (BASEL III + SLR).
ينتج عن هذه السلطات الهائلة تقليل احتمالات ظهور نقص مفاجئ في الطلب المحلي على السندات الأميركية. وضمان ارتفاع حجمها بحسب حاجة الفيدرالي والحكومة، لأن فرض نسب مئوية على المصارف للاستثمار في السندات يعني أن حجم السندات وقيمتها سترتفع مع ارتفاع معدل أرباح المصارف.
لكن دور الحكومة ووزارة الخزانة والاحتياطي الفدرالي لا يختصر كل مكامن قوة الاقتصاد الأميركي، فهذا الاقتصاد قادر على توسيع قاعدة ثروته الفعلية في كثير من القطاعات: التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، الصناعات الدفاعية، الطاقة، الرعاية الصحية، التعليم، فضلاً عن الصناعات المالية نفسها. وهذه كلها قطاعات قادرة على رفع نسبة الناتج القومي الحقيقي وتوسيع قدرة الدولة على خدمة الدين.
فضلاً عن هذا، ثمة جوانب تغفلها التحليلات الاقتصادية، ويجدر التنبه لها. فالاقتصاد الأميركي لا يستند فقط على المؤسسات الحكومية، ورغم أن هذه المؤسسات تمتلك سلطات قانونية تسمح لها بأن تفرض على المؤسسات الخاصة ما ترتئيه في مصلحة الاقتصاد الكلي، إلا أن المؤسسات الخاصة لا تلعب دور المتأثر فقط بسياسات الحكومة، بل هي تؤثر إلى حد كبير فيها. فالمصارف والشركات العملاقة قادرة على التدخل في السوق وتغيير أنماطه، نظراً لحجم ثروتها الهائل. وبوسع الشركات العقارية مثلاً أن تقرض المشترين بسعر فائدة لا يرتبط ارتباطاً مباشراً بالفائدة على السندات الحكومية. وبوسع شركات التجزئة أيضاً أن تفرض خفضاً في الأسعار من دون أن تخفض أرباحها، عبر إنتاج سلع أرخص من تلك المتداولة في السوق لتيسير البيع ومقاومة التضخم. ولذا، نحن أمام عدد كبير من القوى الاقتصادية التي تملك سلطات وقدرات قادرة على التأثير في الاقتصاد، تعمل جنباً إلى جنب مع الفيدرالي والخزانة، بوصفها جميعا تبحر في القارب نفسه، ومن مصلحة الجميع أن يصل سالماً إلى الشاطئ.

ماهية “صلابة” الاقتصاد الأميركي
الاقتصاد الأميركي يتميز بالصلابة ليس لأن حكومته قوية فقط، بل لأن النظام المالي الأميركي مصمم ليكون مركز التدفقات، ومركز التسويات، والسيولة، والتمويل، ومركز الاحتياطي العالمي، ومركز الأمان القانوني، فضلاً عن سعيه ليكون مركز الامتثال العالمي (COMPLIANCE). وهذه البنية المتشابكة تجعل الاقتصاد الأميركي يعمل وفق منطق مخالف لما تعمل عليه اقتصادات الدول الأخرى. إنه يشبه بنية تحتية اقتصادية للعالم وليست مالية فقط. وعلى المستوى المالي يبدو واضحاً أنه طالما ما زال العالم يتاجر ويسعّر بالدولار، فإن الاقتصاد الأميركي يحصل على سيولة هائلة يومياً ويجني أرباحاً من تدفقاتها، ويضمن الطلب على سنداته الحكومية، ويحافظ على قوة مصارفه، ويوسع قدراته الاستثمارية.
وفي الخلاصة، يمكن القول إن الاقتصاد الأميركي لا يستمد قوته مما يملك فقط، بل مما يمر عبره ويزوره زيارات خاطفة. وهذه القدرة على تحويل التدفقات الخارجية إلى موارد داخلية، هي ما يجعل هذا الاقتصاد أكثر استعصاء على الانهيار البنيوي وأقدر على استيعاب دين عام أضخم مما نتصور.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى