العلوم السياسية بوصفها شبهة: السطر الأخير في الدولة الأمنية

سلام الكواكبي

ليست كل الحكايات التي جرت في الفروع الأمنية السورية متشابهة، لكنها تتقاطع عند نقطة واحدة، وهي الخوف من السياسة لا بوصفها ممارسة، بل بوصفها فهماً. وما جرى معي إبّان حكم بشار الأسد لا أرويه باعتباره حادثة شخصية، ولا شهادة إدانة لرجل أمن بعينه، بل مثالاً مكثفاً عن عقليةٍ أثبتت السنوات اللاحقة أنها لم تكن حبيسة المؤسسات الأمنية، بل تسربت إلى المجتمع، واستقرت في السياسة والثقافة والدين، وربما في وعينا الجمعي نفسه.

كان الأمر في ظاهره إدارياً بحتاً، فأنت تستقبل عنصر أمني يحضر لتجديد استمارة سنوية تخصّك في فرعه. لا تحقيق، لا اتهام. مجرد إجراء روتيني يفترض أن ينتهي خلال دقائق. لكن الروتين في دولة أمنوقراطية ليس بريئاً، بل هو، حسب ميشيل فوكو، أحد أشكال السلطة الناعمة، حيث لا يُمارَس القمع عبر العنف المباشر، بل عبر التنظيم، والتصنيف، وإنتاج المعرفة عن الأفراد.
بدأت الأسئلة بهدوء:
ما هي دراستك؟
علوم سياسية.
أين درست؟
في معهد العلوم السياسية.
ماذا تدرّس؟
علوم سياسية.
بماذا تحاضر؟
في العلوم السياسية.
ما هي مواضيع أبحاثك؟
العلوم السياسية.
حول ماذا تدور مقالاتك؟
العلوم السياسية.
ما هي مواضيع المؤتمرات التي تشارك بها؟
العلوم السياسية.

من حيث الشكل، لا شيء غير طبيعي حتى الآن. لكن من حيث المعنى، كان السؤال ذاته يُعاد بصيغ مختلفة، كأن الكلمة نفسها لا تُصدَّق. كأن العلوم السياسية ليست اختصاصاً أكاديمياً، بل ادعاء يحتاج إلى تدقيق مستمر. هنا لا تعود المعرفة قيمة، بل تتحول إلى عبء، إلى ما يسميه فوكو “معرفة خطرة” لأنها تفتح إمكان الفهم، ومن ثم إمكان الاعتراض.
ثم جاء السؤال الأخير:
هل لك اهتمامات سياسية؟
هذا السؤال لا يستفسر عن معلومة، بل يصدر حكماً. فالاهتمام بالسياسة، في المنطق الأمني، ليس حقاً طبيعياً للمواطن، بل ميلاً مشبوهاً يجب نفيه. وكأن السياسة، التي هي في تعريف حنّة آرنت فعل الظهور في المجال العام، يجب أن تُسحب من المجال العام وتُعاد إلى الظل، حيث لا صوت ولا أثر.
غضبت. لا لأن السؤال جارح، بل لأنه عبثي. لأن كل ما سبقه كان كافياً للإجابة عنه عشر مرات. خرجت مني عبارة غاضبة، غير مهذبة، لا تصلح للنشر، لكنها كانت صادقة في جوهرها الذي سعى إلى رفض السؤال، لا الشخص. رفض لفكرة أن يُطلب من الإنسان أن ينكر ما هو عليه كي يُطمئن السلطة.
ردّ المحقق بهدوء لافت:
“اهدأ. الضابط لن يقرأ كل الضبط. هو يكتفي بالسطر الأخير”
ثم أضاف، كأنه يشرح آلية العمل:
“المهم أن نكتب في الأخير أنك غير مهتم بالسياسة”.

في تلك اللحظة، انكشف جوهر المسألة. لم يكن الهدف معرفة الحقيقة، بل إنتاج خاتمة مناسبة. هنا تعمل السلطة كما وصفها بيار بورديو. فهي لا تهتم بالواقع بقدر ما تهتم بالتصنيف الرمزي. الاسم، الخانة، الجملة الختامية، هي ما يحدد موقعك الاجتماعي والسياسي، لا حياتك الفعلية ولا أفكارك الحقيقية. فالسطر الأخير هو ما يهم السلطة. جملة واحدة تختصر الإنسان، وتضعه في خانة آمنة. فهو غير مهتم، وغير معني، فهو إذاً ليس خطير. أما ما قبل ذلك، فحشو يمكن تجاهله. وهنا يجب التوقف عند المعنى الأوسع، فهذه ليست عقلية رجل أمن، بل عقلية نظام كامل. نظام لا يقرأ النصوص، بل يبحث عن الخلاصة. لا يحتمل التعقيد، ولا يعترف بالتعدد، ولا يرى في التفكير إلا إزعاجاً. نظام يريد مواطنين بلا تاريخ، وبلا أسئلة، وبلا لغة دقيقة.
والأخطر أن هذه العقلية لم تتوقف عند حدود الفروع. لقد تسربت إلينا. صرنا نمارسها على بعضنا البعض. في السياسة، حين يُختزل أي رأي مخالف في نية خبيثة. في الثقافة، حين يُسأل الكاتب “لمن تكتب؟” بدل “ماذا تقول؟”، كما حذّر إدوارد سعيد مراراً من تحويل المثقف إلى تابع أو شاهد زور. وفي الدين، حين يُدان السؤال قبل أن يُفهم، ويُجرَّم التفكير بوصفه تهديداً للإيمان لا جزءاً منه.
صرنا نبحث عن السطر الأخير في كل شيء:
مع أو ضد؟
وطني أو خائن؟
مؤمن أو ضال؟

أما المسارات، والتحولات، والتناقضات، والسياقات، فهي عبء لا وقت له. وهذا بالضبط ما سمّته حنّة آرنت “تفاهة الشر”. ليس الشر الصاخب، بل ذاك الذي يُمارَس بهدوء، باسم النظام، وبذريعة الاختصار. في هذا السياق، تصبح العلوم السياسية خطراً حقيقياً. لا لأنها تحرّض، بل لأنها تفسّر. لأنها تكشف آليات السلطة، والخطاب، والخوف، والمصلحة. لأنها تقول إن ما يحدث ليس قدراً، بل نتيجة. وإن ما يبدو طبيعياً، هو في الحقيقة مُنتَج سياسياً.
تلك العبارة التي طُلب أن تُكتب في السطر الأخير: “غير مهتم بالسياسة”، لم تكن تخصني وحدي. كانت الصيغة التي طُلب من مجتمع كامل أن يكتبها عن نفسه كي يُسمح له بالعيش بهدوء. لكن ما لا يُكتب في الضبط، لا يختفي من الواقع. وما يُمنع من التعبير، لا يتوقف عن التفكير.
ربما لم يقرأ الضابط كل الضبط. لكن التاريخ، كما نعرف، لا يكتفي بالخلاصة. هو يقرأ الهوامش، والتناقضات، وكل ما حاولوا شطبه.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى