سرايا أنصار السنة: القناع الوظيفي لتأمين “الجسر البري” الإيراني في سوريا الجديدة

ضياء قدور

دخلت سورية منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 مرحلة “السيولة الأمنية” الفائقة، حيث تحاول القوى المتضررة من التغيير، وعلى رأسها طهران وشبكات “الفلول” الأمنية، إعادة هندسة المشهد عبر أدوات وظيفية تتشح بعباءة “السلفية الجهادية”. ومن خلال التتبع الدقيق لنشاط ما يُعرف بـ “سرايا أنصار السنة”، نجد أنفسنا أمام كيان “مُخلّق” استخباراتياً، يسعى بوضوح لجعل سورية “دولة غير قابلة للحكم”، وفق ما أشار إليه الخبراء في تقاريرهم الأخيرة.
السقوط الإعلامي المريب
النقطة الأكثر إثارة للريبة، والتي تمثل خرقاً فاضحاً لكل “البروتوكولات” الجهادية المتعارف عليها، هي قناة التواصل الإعلامي التي اختارها التنظيم للتعريف بنفسه. ففي 21 مايو 2025، نشرت صحيفة “النهار” اللبنانية مقابلة مطولة مع “أبو الفتح الشامي”، المسؤول الشرعي في السرايا. إن المعهود في الحركات الجهادية الحقيقية (مثل القاعدة وداعش) هو الازدراء التام للصحافة “العلمانية” أو “التابعة للأنظمة”، والاكتفاء بالمنصات المشفرة مثل “تيليجرام” أو وكالاتها الخاصة.
إلا أن خروج “أبو الفتح الشامي” للحديث إلى صحيفة لبنانية عريقة يحمل دلالات استخباراتية لا تخطئها بصيرة الخبير. فمن خلال هذه المقابلة، سعى التنظيم لبث الرعب في الداخل اللبناني عبر التهديد بالتمدد نحو طرابلس ومحاربة “الأقليات”. هذا الخطاب يصب حرفياً في مصلحة السردية الإيرانية التي يحتاجها حزب الله لتبرير بقاء سلاحه ونفوذه كضرورة لمواجهة “الخطر التكفيري” القادم من سوريا. إن هذا الانكشاف الإعلامي، وفق تحليل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يثير تساؤلات جدية حول ما إذا كان التنظيم مجرد “عملية إعلامية” أو واجهة لخدمة أجندات قوى إقليمية.
جغرافيا “الجسر البري” وخيوط طهران في البوكمال
لا يمكن فهم استراتيجية السرايا من دون النظر إلى خارطة انتشارها التي تتركز بذكاء في “المناطق الوسطى” (حمص وحماة) والساحل. هذه المناطق تمثل العصب الحيوي لـ “الجسر البري” الإيراني الذي يربط طهران ببيروت عبر البوكمال، وهو الممر الاستراتيجي لتهريب الأسلحة والأموال إلى حزب الله.
في ديسمبر 2025، أعلنت وزارة الداخلية السورية عن ضبط شحنة صواريخ مضادة للطائرات من طراز SAM-7 (MANPADS) في منزل بمدينة البوكمال، كانت معدة للتهريب خارج البلاد. إن وجود هذه الأسلحة في مناطق ينشط فيها “أنصار السنة” يعزز فرضية أن التنظيم يعمل كـ “ستار أمني” أو “فوضى منظمة” تغطي على تحركات الميليشيات المرتبطة بإيران وفلول النظام. ووفقاً لتقارير معهد دراسات الحرب (ISW)، فإن نشاط هذه المجموعات يساهم في خلق “فراغ أمني” تستغله طهران لإعادة بناء شبكاتها الاستراتيجية بعد خسارتها للنظام المركزي في دمشق.
لغة “الفلول” وركاكة القناع
من الناحية المهنية واللسانية، تلفت نظري البيانات التي يصدرها التنظيم، والتي تتسم بـ “ركاكة لغوية” واستخدام مفرط للغة العامية السورية، وهو ما وثقه الباحث عبد الرحمن الحاج في تحليلاته المنشورة عبر موقع “عنب بلدي”. التنظيمات الجهادية الحقيقية تُقدس اللغة العربية الفصحى وتستند إلى خطاب شرعي متماسك، في حين يبدو خطاب السرايا وكأنه كُتب في أروقة الفروع الأمنية السابقة التي تحاول تقمص دور الجهاديين ولكنها تفشل في إخفاء لهجتها وهويتها الحقيقية.
ويرى الدكتور عبد الرحمن الحاج أن “سرايا أنصار السنة” هي “تنظيم وهمي” يديره فلول النظام السابق، ويهدف توقيت بياناته (مثل التزامن مع زيارات الرئيس السوري أحمد الشرع الخارجية) إلى إرسال رسائل للمجتمع الدولي، وخاصة روسيا، بأن “الأقليات” مستهدفة تحت الحكم الجديد، وهو ما يخدم دعاية الفلول وإيران.
استراتيجية “الشيطنة” وضرب النسيج الاجتماعي
اعتمد التنظيم “كتيب تعليمات” يركز على استهداف الأقليات لزعزعة استقرار الحكومة السورية، وهو ما أكده المحلل “روب غيست بينفولد” في تحليله لشبكة الجزيرة، مشيراً إلى أن هدف التنظيم هو جعل سورية غير مستقرة. عمليات مثل تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق (يونيو 2025) الذي أدى لمقتل 25 شخصاً، وتفجير مسجد الإمام علي في حمص (ديسمبر 2025) الذي استهدف المصلين العلويين، هي عمليات مصممة بدقة لشيطنة الحكومة السورية دولياً وإظهارها كعاجزة عن حماية التنوع السوري.
معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في تحليله لمجزرة كنيسة مار إلياس، أشار إلى أن السلطات في دمشق وواشنطن تملك ما يكفي من المعلومات لتعزيز التعاون الأمني ضد هذه الخلايا التي قد تكون “جماعة واجهة” لداعش أو منشقين عن هيئة تحرير الشام عادوا للتطرف لخدمة مصالح مشبوهة. إن التناقض في تبني العمليات، حيث تنسبها الداخلية لداعش في حين تتبناها السرايا، يشير إلى رغبة التنظيم في “الصعود الإعلامي” وتوفير غطاء لأطراف أخرى.
الخلاصة: المواجهة الأمنية الشاملة
بناء على ما سبق لا تبدو “سرايا أنصار السنة” تنظيما متطرفا نشأ من رحم المعاناة، بل هي “ظاهرة أمنية مُخلقة” تتقاطع فيها مصالح طهران التي تريد تأمين ممراتها اللوجستية، مع مصالح فلول النظام الذين يهدفون لإطالة أمد الفوضى. وتواصل قادة التنظيم مع الصحافة اللبنانية، وتزامن عملياتهم مع ضبط شحنات الأسلحة الإيرانية في البوكمال، وركاكة خطابهم التي توحي بإدارة استخباراتية، كلها أدلة دامغة تؤكد هذا الارتباط.
كمختص أمني، أرى أن مواجهة هذا التهديد تتطلب:
تفكيك شبكات الفلول: ملاحقة الضباط السابقين الذين يوفرون المعلومات والغطاء لهذه الخلايا.
تأمين الحدود: السيطرة الكاملة على ممر البوكمال-حمص لقطع “خط الأكسجين” اللوجستي لإيران.
المواجهة المعلوماتية: استباق عمليات “العلم الزائف” عبر كشف الارتباطات المشبوهة للتنظيم بالاستناد إلى الأدلة الميدانية واللسانية التي وثقتها مراكز الأبحاث المختلفة.
إن سوريا في عام 2025 تقف أمام اختبار حقيقي لسيادتها، وفهم المحركات الحقيقية لـ “سرايا أنصار السنة” هو الخطوة الأولى لضمان استقرار البلاد وحماية نسيجها الاجتماعي من هندسة الفوضى العابرة للحدود.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى