
قبل أيام، حظيت بفرصة حضور أول ندوة اقتصادية تخصصية في سوريا، بعد غياب 13 عاماً عن البلاد. وكانت فرصة مفيدة لتكوين عدد من الملاحظات عن الواقع، بعيداً عما تعكسه وسائل التواصل. وكانت الندوة في قاعة محاضرات غرفة تجارة دمشق، بعنوان: “أثر التشريعات الاقتصادية في النهوض الاقتصادي بسوريا”. وتناولت ما صدر عن المشرّعِ من قرارات اقتصادية خلال العام الجاري، تحديداً.
كان المحاضر، مناف قومان، وهو باحث اقتصادي متخصص. وقد قدّم مادة تحليلية ملفتة، خاصة لجهة استخدام أدوات التحليل الرياضي. وبقدر ما كانت مادة المحاضرة غنية ومفيدة، بقدر ما كانت تعليقات بعض الحاضرين، صادمة بالنسبة لي. إذ تبدى نفسٌ في الحديث، ذكّرني بعهدٍ من المفترض أننا طويناه إلى غير رجعة. نفسٌ يستصعب تقبّل نقد السلطة، ويطالب بالحديث عن “الإيجابيات”، وينحاز للسلطة، بصورة تضرّ فعلياً، بالسلطة ذاتها.
بدايةً، يجب التوضيح أن المادة التي قدمها مناف قومان، ركّزت على “السلبيات”. وقد نوّه في بداية حديثه إلى أنه لن يتطرق للـ “الإيجابيات”، بحكم أنها تتحدث عن نفسه. ونتفق معه في ذلك، فدور الباحث، الإضاءة على المشكلات، وتقديم مقترحات لحلها، لا تقديم عرض ترويجي لأداء السلطة. فتلك وظيفة آخرين من رجالات الدعاية، وهم متوافرون بكثرة.
وقد أشار الباحث في مادته إلى جملة مشكلات، يصعب إنكارها. فهي جليّة على أرض الواقع. وهي تمسّ أهم ملمح في حياة السوريين. المعيشة. هذه المشكلات هي إلى حدٍ كبير، نتاج القرارات الاقتصادية الصادرة خلال العام 2025. فقد تم الاعتماد على اقتصاد سوق حر في مجتمع فقير، يعاني من ضعف شبكات الأمان الاجتماعي، ويعاني من بطالة كثيفة وانهيار إنتاجي. وتم تحرير الأسعار، دون أرضية لدعم الفئات الهشة، ومع غياب لآليات حماية الصناعة المحلية أو دعمها عبر التمويل أو اللوجستيات، أو سواها. وكانت سياسة جذب الاستثمارات نخبوية تركز على المراكز وتهمل الأطراف. كما تم الاعتماد على نظام ضريبي مبسط غير تصاعدي، لا ينسجم مع متطلبات العدالة الاجتماعية. مع ضعف في تطبيق مبادئ الحوكمة المؤسسية أو التشاركية في صنع القرار.
ولفت الباحث في مادته إلى أن القرارات الصادرة خلال العام الجاري، انعكست تشغيلاً اقتصادياً، لكنها لم تؤدِ إلى التأسيس للنهوض الاقتصادي. فهي أتاحت أثراً فورياً متمثلاً في ضخ السيولة وتسهيل المعاملات وتخفيف القيود على النشاط الاقتصادي. إلا أنها كانت أشبه بإدارة أزمة، ولم تبنِ مساراً نحو النمو، ولم تحقق إعادة هيكلة أو تغييراً للبنية الاقتصادية القائمة في البلاد. ووفق تحليل الباحث، خلص إلى أن السبب في ذلك، بصورة خاصة، يتعلّق بملامح الحوكمة الاقتصادية الجديدة. فهي تقوم على قرارات من الأعلى، ومؤسسات بلا مساءلة، وغياب للشفافية، وتركز للصلاحيات.
وكان النقاش التالي للمحاضرة غنياً بمشاركات وتعليقات مفيدة. لكنه في الوقت ذاته، شهد نقداً حاداً لعرض الباحث، بوصفه تحدث عن “السلبيات”، وتجاهل “الإيجابيات”. شارك في النقاش رجال أعمال وباحثون اقتصاديون، وبضعة مسؤولين من الصف الثالث، داخل مؤسسات بالدولة. وكان أكثر ما لفتني في تعليقات بعضهم، الإشارة إلى الوضع الاستثنائي الذي تعيشه سوريا اليوم. بلد مدمّر، خارج من نزاع، لا يتمتع بالقدر المطلوب من الاستقرار السياسي والأمني. وهو وضع يقتضي، وفق هؤلاء، أسلوباً استثنائياً في الحكم. يقوم على عدم التشتت وتركيز الصلاحيات والسرعة في الإنجاز. الملفت أكثر، أن البعض من أصحاب هذا الاتجاه ألمح –بشكل غير مباشر- إلى رفض تقديم الآراء الناقدة والمشككة في أداء السلطة. باعتبار أنه، من في السلطة، يعلمون ما يفعلون، وأنهم على دراية ببواطن الأمور التي لا ندريها، وأن لديهم مستشارون يطلعونهم على ما يحتاجون من معطيات.
وقد لحظنا أن أكثر ما استفز هذا “البعض” في مضمون المحاضرة، تحميل المسؤولية في المشكلات الاقتصادية الراهنة، إلى حدٍ كبير، لآلية صنع القرار داخل منظومة الحكم بدمشق. وذاك هو السبب العميق، في ظننا، لأبرز مشكلات سوريا، التي أدت أساساً إلى ثورة العام 2011. فصنع القرار في حكم رشيد، يخضع لجملة معادلات من أبرزها، التشاركية مع أصحاب المصلحة، كالتجار أو الصناعيين أو المستهلكين، حسب نوع القرار. ويخضع القرار لمراحل من الأخذ والرد، تتدخل فيه لوبيات ومصالح، وصولاً إلى صيغته النهائية التي تكون حلاً وسطاً يرضي معظم الأطراف المعنية. وفي هذه المراحل، يجب أن يكون لقوى المجتمع المدني، خاصة النقابات والمنظمات التي تمثّل العمّال والموظفين، قدرة كافية على التمثيل والتأثير. كما يجب أن يخضع القرار لمرحلة كافية زمنياً، من التمحيص، من جانب متخصصين وباحثين، قبل صدوره. وحتى بعد صدوره، يمكن مراجعته والعودة عن بعض نقاطه التي قد تتضح إشكالياتها، حال البدء بالتنفيذ.
أما الحديث عن الحاجة لعدم التشتت وتركيز الصلاحيات والسرعة في الإنجاز، بسبب استثنائية الوضع السوري الراهن، فهي ذرائع تشبه التي كنا نسمعها زمن النظام البائد. فسوريا يومها كانت هدفاً للمؤامرة الخارجية دوماً، وفي خضم “صراع” مع إسرائيل، يتطلب خفتَ كل الأصوات المعترضة على أي قرار، وإخضاعها لأولوية الاستثناء الراهن. استنثناء عشنا في ظله، لعقود مع حكم الطوارئ، وتلاه ثورة وصراع أهلي دامٍ، دُفعت أثمانه باهظاً، لنسمع مجدداً من يقول، إن الوضع السوري استثنائي اليوم، ويتطلب معالجات استثنائية في الحكم، لا تقبل تشاركية أو نقداً أو مساءلة أو مطالبة بحوكمة صنع القرار بصورة مؤسسية!
بطبيعة الحال، نحن لا ننكر التحديات الجسيمة التي تواجه سوريا، وصانع القرار فيها، اليوم. لكن، كل مرحلة في تاريخ أي بلد، تتضمن تحديات. وكلما زادت تلك التحديات، كلما تطلب ذلك المزيد من “الشورى”، والتشاركية، وبث الإحساس لدى المواطن، بأنه جزء فاعل من هذه “المواطنة”، لا مجرد تابع أو “رعية”. حينها، تصبح مواجهة التحديات أكثر فاعلية، لأنها تصبح مواجهة جمعية، لا مجرد حراك سلطوي منفصل عن القاعدة الشعبية.
وكلما كانت السلطة رشيدة، كلما رحبت بالانتقاد والتصويبات، خاصة التي يقدّمها الباحثون والتخصصيون، بوصفها تغذية راجعة، تساعدها على تصويب أخطائها، بصورة لا تفصلها عن الواقع، ولا تجعلها في وراد أن تعيش خريف عهد الأسد الأخير، يوم كان في وادٍ، غير الذي كان فيه “شعبه”.
المصدر: تلفزيون سوريا






