قسد.. رقصة مذبوح على الحبال

محمد خالد الرهاوي

مع اقتراب نهاية الموعد المحدد لتنفيذ بنود اتفاق 10 مارس الموقع بين الرئيس أحمد الشرع وقائد ميليشيات قسد مظلوم عبدي، تندفع ميليشيات قسد بين الفينة والأخرى نحو حافة الهاوية في مناورة سياسية وعسكرية مكشوفة؛ إذ لم يعد الأمر مجرد مناوشات حدودية أو تباين في وجهات النظر السياسية، ولكن تحول إلى محاولة ممنهجة لخلط الأوراق وتفجير المشهد السوري برمته، هربا من استحقاقات وطنية ودولية تضع قسد أمام خيارين أحلاهما مر عليها: الاندماج في مؤسسات الدولة السورية، أو المواجهة الخاسرة.
لقد بدأت ملامح هذا التصعيد بضجيج إعلامي وسياسي غير مسبوق، تمثل في تصريحات قائد ميليشيا قسد مظلوم عبدي الذي زعم قبل أيام أن عام 2026 سيكون عام الوحدة الكردية في أجزاء كردستان الأربعة في سوريا والعراق وتركيا وإيران، مع أن هذا الطرح لا يمكن وصفه إلا بأنه أضغاث أحلام منفصلة تماما عن الواقع الجيوسياسي، ولها أهداف تتجاوز الحلم القومي؛ ذلك أننا لو نظرنا إلى إقليم كردستان العراق، الذي يمتلك كل مقومات الدولة من جيش وبرلمان واقتصاد ونفط واعتراف دستوري، لوجدنا أنه قد فشل فشلا ذريعا في نيل الاستقلال الرسمي رغم الاستفتاء الشعبي في عام 2017.
الموقف السوري المدعوم برفض إقليمي قاطع (خاصة من تركيا والعالم العربي) لأي كيان انفصالي، يجعل خيارات قسد تضيق يوما بعد يوم؛ لأن وجودها بوصفها ذراعا لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا عالميا هو مسألة أمن قومي وخط أحمر لها.
فكيف لميليشيا تسيطر على مناطق عربية بامتياز أن تروج لوهم مماثل؟ وهي التي ترتكز سرديتها على احتلال أراضٍ في دير الزور والرقة والحسكة ذات غالبية عربية ساحقة لا يوجد فيها شعب كردي يبرر هذه الادعاءات، بل إن نسبة المكون الكردي في محافظة الحسكة التي تعد أكبر معقل للأكراد السوريين لا تتجاوز 27 بالمئة من مجموع سكانها، وهو ما يجعل محاولةَ فرض حلم كردي على جغرافيا عربية تفتقر للشرعية التاريخية وللحد الأدنى من القبول الشعبي المحلي وبمثابة انتحار ديموغرافي.
وكل هذا يطرح سؤالا جوهريا حول توقيت هذه التصريحات المريبة الذي يهدف إلى استفزاز دول الإقليم ودفع تركيا وإيران والعراق لاتخاذ مواقف متشنجة وخلق حالة من الفوضى تسمح لقسد بالادعاء بأن الأكراد مستهدفون وجوديا، إضافة إلى رغبتها في رفع سقف التفاوض وإيهام قاعدتها الشعبية بنصر قادم للتغطية على التنازلات الحتمية أمام الحكومة السورية. ولم يتوقف
الاستفزاز عند التصريحات، لكنه انتقل إلى الميدان وبأبشع صوره، فقد شنت ميليشيات قسد يوم الاثنين 22 ديسمبر 2025 هجوما مفاجئا وغادرا على نقاط الأمن العام والمدنيين في مدينة حلب، واعتقلت عناصر الأمن على الحواجز المشتركة دون سابق إنذار، في تصعيد عسكري مباشر يهدف للهروب من التزامات اتفاق 10 مارس وافتعال جبهة عسكرية تسوغ لها تعليق العمل بالاتفاق بحجة حالة الحرب، واستهداف الاستقرار المعيشي في حلب لإرسال رسالة تخريبية ومحاولة يائسة لفرض شروطها.
إن ما تقوم به قسد اليوم من تصريحات خيالية واعتداءات غادرة هو رقصة المذبوح؛ فهي تدرك أن المظلة الدولية قد تغيب غدا، وأن الرهان على الوحدة الكردية العابرة للحدود هو وقود لن يجني منه الأكراد إلا الويلات..
إن قيادة ميليشيات قسد تعيش حالة من الانفصام بين الواقع وما تفرضه موازين القوى؛ فهي تتشبث بدعم دولي وسيطرة على حقول النفط والغاز السورية ومساحات زراعية شاسعة، وتحاول الحفاظ عليها ولو كان الثمن دماء السوريين، لكن الإصرار على البقاء دولة داخل الدولة هو رهان على جواد خاسر، فالموقف السوري المدعوم برفض إقليمي قاطع (خاصة من تركيا والعالم العربي) لأي كيان انفصالي، يجعل خيارات قسد تضيق يوما بعد يوم؛ لأن وجودها بوصفها ذراعا لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا عالميا هو مسألة أمن قومي وخط أحمر لها، وربما عدَّت أنقرة تصريحات عبدي الأخير بمثابة إعلان حرب يتجاوز الحدود السورية، وهو ما يفسر زيارة وفد دبلوماسي تركي رفيع المستوى مؤلف من وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس الاستخبارات إلى دمشق واللقاء بالرئيس أحمد الشرع والمسؤولين السوريين، فضلا عن التحركات العسكرية التركية في حلب، وربما استخدام هذا الاستفزاز ذريعة لإقناع الأطراف الدولية بضرورة تأييد التدخل وحماية المدنيين وتفكيك العمود الفقري لقسد المرتبط بالعمال الكردستاني. ولا شك أن هذا التقاطع في المصالح بين دمشق وأنقرة لمنع قيام كيان انفصالي واستعادة ثروات البلاد يجعل من تصرفات ميليشيا قسد عاملا مسرعا للتنسيق الأمني بين الجانبين، وهو ما تخشاه الميليشيا وتحاول الهروب منه عبر افتعال مواجهة حلب.
إن ما تقوم به قسد اليوم من تصريحات خيالية واعتداءات غادرة هو رقصة المذبوح؛ فهي تدرك أن المظلة الدولية قد تغيب غدا، وأن الرهان على الوحدة الكردية العابرة للحدود هو وقود لن يجني منه الأكراد إلا الويلات، وأن الطريق الوحيد المتبقي أمامها هو التخلي عن أوهام
الانفصال، والالتزام باتفاق 10 مارس، والاندماج الصادق وفق رؤية الدولة السورية التي تضمن حقوق المواطنة للجميع بعيدا عن منطق السلاح والسيطرة على موارد الشعب، وأي خيار آخر سيعني مواجهة حتمية لن تكون في صالح قسد، ولن يحصد منها قادتها سوى الخراب الذي زرعوه في حلب والحسكة والرقة ودير الزور.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى