
على مدى أكثر من عقد، عملت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على تحويل حيّي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب إلى مناطق ذات طابع عسكري مغلق، من خلال تكديس السلاح والذخائر، وبناء شبكة واسعة من الأنفاق والمخابئ والتحصينات.
وتعزز شعور القوة لدى قسد بعد تدفق المقاتلين والسلاح من عفرين ومناطق الشهباء إلى الشيخ مقصود بين عامي 2018 و2024، ما منح “قسد” شعوراً بالثقة في قدرتها على الحفاظ على وجودها المكاني ومكاسبها العسكرية والسياسية في المدينة.
تقول مصادر محلية متابعة في حلب لموقع تلفزيون سوريا، يتضح أن القدرات العسكرية لـ”قسد” في حلب لا تقتصر على وفرة السلاح والذخيرة، بل تقوم أيضاً على بنية تحتية دفاعية محكمة، مدعومة بتراكم بشري وتنظيمي تشكّل عبر سنوات طويلة من السيطرة والتحصين، وبحسب المصادر، هذا الواقع يمنحها اليوم شعوراً بفائض القوة، ويجعلها في موقع من يملك القدرة على خوض معركة محتملة، خصوصاً في ظل حساسية موقعها الجغرافي داخل أحياء مكتظة بالسكان. فالمواجهة هنا تحمل كلفة بشرية عالية، وهي كلفة لا ترغب الحكومة السورية في دفعها بأي شكل، وتسعى لتجنبها قدر الإمكان، على عكس “قسد” التي تبدو مستعدة لخوضها حتى وإن كان المدنيون ضحاياها، إذ تعتبر المسألة بالنسبة لها قضية وجود لا تحتمل التراجع.
لمحة عن حي الشيخ مقصود
يقع حي الشيخ مقصود وأجزاء من الأشرفية على تلة مرتفعة شمالي حلب، وكان يعرف شعبياً قبل عقود باسم جبل السيدة، وحتى العام 1970، سكن الحي عدد كبير من العائلات المسيحية مثل عائلات قهواتي، بلدي، طحان، إضافة إلى الأرمن.
أقدم شارع في الحي اليوم يُعرف باسم شارع جورج أسود نسبةً إلى أحد كبار الملاك سابقاً.
. كان في الحي كنيسة قديمة هُدمت لاحقاً لبناء كنيسة أحدث وبيت للراهبات.
. ضم الحي العديد من المدارس الخاصة التابعة للأرمن، كما سكنه عدد من العائلات الحلبية التقليدية مثل عمور، عرب، خالد أفندي، شريفة، جابر، جبر، سماقية، قصاب، عجلة، مخملجي وغيرهم.
لاحقاً، استقر فيه سكان من أرياف حلب الشرقية والغربية والشمالية، ومن بينهم عائلات هنداوي وحماش، حيث يُنسب بناء الجامع الكبير في الحي إلى الشيخ أحمد حماش في ستينيات القرن الماضي.
في سبعينيات القرن الماضي، شهد الحي موجة سكنية جديدة من العائلات الماردلية، إلى جانب أبناء قرى بيانون وحيان وأرياف إدلب مثل عائلات ناعية، عارف، وباريشي.
التحولات الديموغرافية
بحسب مصادر محلية مختصة بالتاريخ، بدأ الحضور الكردي في حي الشيخ مقصود بعد سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً منذ العام 1970، إذ لم يكن لهم وجود يذكر قبل ذلك، وأول احتفال بعيد النيروز في الحي جرى منتصف الثمانينيات، وأصبح لاحقاً تقليداً سنوياً يميز المنطقة، وتعد عائلة صبري من أقدم العائلات الكردية في الحي.
تضيف المصادر، كان موقع الحي في الأصل مقالع حجرية أُغلقت في الثمانينيات بسبب التوسع العمراني، ثم بيعت أراضيها لتجار الحديد، لتظهر لاحقاً منطقة الشقيف الصناعية المتخصصة بقطع التبديل، وفي تلك الفترة، اجتاحت الحي مخالفات سكنية واسعة نتيجة ضعف الرقابة البلدية وغياب المخطط التنظيمي، ما أدى إلى تغير كبير في التركيبة السكانية، وأصبح الأكراد جزءاً أساسياً من تاريخ الحي، مع تمددهم نحو الأشرفية وبني زيد.
شبكة أنفاق ومخابئ
تمتلك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شبكة واسعة من الأنفاق والمخابئ داخل أحياء الشيخ مقصود والأشرفية وأجزاء من حي بني زيد، وهي بمثابة مستودعات ضخمة مليئة بالذخائر والأسلحة التي جرى تكديسها على مدار سنوات طويلة من سيطرتها في مدينة حلب، هذه البنية التحتية العسكرية لا تقتصر على التخزين فحسب، بل تستخدم أيضاً كخطوط دفاعية وممرات آمنة تتيح للمقاتلين التنقل بعيداً عن أعين الخصوم، ما يمنح “قسد” قدرة إضافية على الصمود والمناورة في حال اندلاع مواجهة.
ويعزز الموقع المرتفع لهذه الأحياء، في الجهة الشمالية الغربية من المدينة، من خطورة الموقف العسكري، إذ يتيح لـ”قسد” إشرافاً مباشراً على عدد كبير من الأحياء المجاورة، الأمر الذي يمكنها من تنفيذ عمليات تصعيد محدودة، أو القيام بعمليات استفزاز وخطف بين الحين والآخر، فضلاً عن رصد تحركات الجيش السوري بسهولة نسبية، هذا التفوق الجغرافي يجعل أي محاولة لاقتحام المنطقة مكلفة ومعقدة، سواء من الناحية العسكرية أو البشرية.
في المقابل، يعيش الأهالي داخل مناطق سيطرة “قسد” حالة دائمة من القلق، إذ يدركون أن وجود هذه المستودعات الضخمة من الأسلحة والذخائر تحت أقدامهم يعني أن أي تصعيد مفتوح سيكون كارثياً عليهم بالدرجة الأولى، ومع كل جولة توتر أو اشتباك، يضطر كثير من السكان إلى النزوح ومغادرة الأحياء، خشية أن يتحولوا إلى ضحايا مواجهة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بعض العائلات فضلت النزوح بشكل كامل نحو عفرين شمالاً، بحثاً عن الأمان والتخلص من “الكابوس” الذي يثقل صدورهم ويجعل حياتهم اليومية رهينة لمعادلات القوة بين الأطراف المتصارعة.
وتشير تقديرات محلية إلى أن هذه الشبكة من الأنفاق والمخابئ، إلى جانب التحصينات التقليدية، تمنح “قسد” ميزة استراتيجية تجعلها قادرة على الاستمرار في فرض نفوذها داخل حلب، رغم الضغوط العسكرية والسياسية المحيطة بها، وأي تحرك عسكري ضدها سيكون مكلفا، إلا إذا انسحبت كما فعلت سابقاً، عندما انسحبت من منطقة عفرين في العام 2018، ومن مناطق الشهباء بريف حلب الشمالي قبيل سقوط النظام المخلوع بأيام في العام 2024، وبدون مقاومة تذكر.
نقل القوات والعتاد من عفرين في العام 2018
في الربع الأول من العام 2018، انسحبت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من منطقة عفرين شمال غربي محافظة حلب، بعد تقدم فصائل الجيش الوطني والجيش التركي في المنطقة، ورغم أن “قسد” خاضت معارك محدودة للدفاع عن عفرين، فإنها سرعان ما نقلت كامل أسلحتها وذخائرها وعديد قواتها إلى منطقة الشهباء القريبة، وهي منطقة ريفية تضم تل رفعت وأكثر من 30 قرية وبلدة.
تمركز قسم من القوات والعتاد في الشهباء، بينما واصل قسم آخر مسيره نحو أحياء الشيخ مقصود والأشرفية داخل مدينة حلب، مروراً بحواجز الفرقة الرابعة المنتشرة بين دوار الجندول والمنطقة الحرة. وقد فضلت “قسد” تعزيز مواقعها داخل حلب على حساب مواقعها في الشهباء شمالاً، حيث جرى نقل جزء من العتاد برضا النظام المخلوع وبالتنسيق مع القوات الروسية التي كانت تمتلك عدة نقاط عسكرية في المنطقة، من بينها نقطة الوحشية في الشهباء، ونقطة المسلمية قرب السجن المركزي، ونقطة كتيبة تل عجار القريبة من طريق حلب – غازي عينتاب قرب تل رفعت.
وبحسب مصادر متابعة لموقع تلفزيون سوريا، فإن نقل قسم من العتاد العسكري والقوات القادمة من عفرين إلى الشهباء، ثم إلى الأحياء التابعة لـ”قسد” داخل مدينة حلب، شكل بداية مرحلة جديدة من التخزين الواسع للذخائر والأسلحة، وقد أضيف إلى ذلك شراء أسلحة وذخائر من مهربين وعناصر في الميليشيات التي كانت تقاتل إلى جانب النظام المخلوع بعد العام 2017، عقب سيطرته على الأحياء الشرقية، وتضمنت تلك الأسلحة التي وصلت إلى حلب في تلك الفترة قذائف هاون وأسلحة متوسطة وخفيفة، بينما لم تتمكن “قسد” حينها من نقل مضادات الدروع.
نقل القوات والعتاد من الشهباء في العام 2024
مع تمدد عمليات “ردع العدوان” نحو حلب أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، انطلقت غرفة عمليات “فجر الحرية” التي هدفت إلى السيطرة على مناطق “قسد” في ريف حلب والتوسع على حساب النظام المخلوع في الريف الشرقي، ومع نهاية الشهر، وقبيل سقوط النظام بأيام قليلة، بدأت “قسد” بسحب قواتها من منطقة الشهباء شمال حلب، حيث تدفقت أرتال ضخمة من المقاتلين والشاحنات المحملة بالذخائر والأسلحة.
كانت “قسد” تمتلك ترسانة متنوعة من الذخائر في الشهباء، لكن كثافتها حالت دون نقلها بالكامل إلى أحياء الشيخ مقصود والأشرفية، ومن بين تلك الأسلحة صواريخ مضادة للدروع، سبق أن استخدمتها ضد الفصائل المعارضة في ريف حلب الشمالي وضد الجيش التركي.
لم تقتصر مخزونات “قسد” في منطقة الشهباء على الأسلحة والذخائر فحسب، بل شملت أيضاً خزانات أرضية ضخمة محفورة تحت الأرض ومليئة بالمازوت المخصص للآليات العسكرية، وبحسب مصادر محلية، فإن هذه الخزانات كانت تحتوي على ملايين الليترات، تركتها “قسد” خلفها عند انسحابها من المنطقة عام 2018، ليغتنمها قادة في الفصائل شمال حلب في تلك الفترة.
المشهد يتكرر اليوم في أحياء الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، حيث تحتفظ “قسد” بخزانات وقود مماثلة تكفيها لفترات طويلة في حال قررت خوض معركة واسعة، هذه الاستعدادات، وفقاً لمصادر محلية في الشيخ مقصود تحدثت لموقع تلفزيون سوريا، تعكس حرص “قسد” على تأمين احتياجاتها العسكرية واللوجستية بشكل مسبق، حتى لو كان ذلك على حساب المدنيين.
ففي الوقت الذي تكدس فيه “قسد” الوقود داخل خزاناتها، حرم الأهالي في مناطق سيطرتها من الحصول على مادة المازوت للتدفئة، ما جعلهم يواجهون برد الشتاء القارس بلا وسائل تدفئة كافية، هذا التناقض بين وفرة الوقود المخصص للآليات العسكرية وغياب المازوت عن بيوت المدنيين، يفاقم حالة الاحتقان الشعبي ويزيد من شعور الأهالي بأنهم يعيشون تحت سلطة عسكرية لا تكترث بمعاناتهم اليومية.
يُذكر أن “قسد” كانت قد سيطرت على ما سمته “مناطق الشهباء” في شباط/فبراير 2016، بدعم جوي روسي وتسهيل من النظام المخلوع، حيث تمددت من مواقعها في عفرين نحو تل رفعت والشيخ هلال والشيخ عيسى وحربل وأم حوش وأم القرى والوحشية وفافين وحاسين وقرامل وأحرص وتل قراح والأحداث وتل شعير وقرى سد الشهباء وتل مضيق وغيرها. وظلت محتفظة بهذه المناطق حتى قبيل سقوط النظام المخلوع في أواخر 2024.
من خلال تتبع مسار نقل القوات والعتاد بين عفرين والشهباء وصولاً إلى أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، يتضح أن “قسد” اعتمدت على استراتيجية إعادة التموضع وتخزين السلاح لضمان استمرار نفوذها العسكري داخل المدينة، فشبكة الأنفاق والمخابئ، إلى جانب الترسانة المتنوعة من الأسلحة، منحتها قدرة على الصمود والمناورة، رغم الضغوط المتزايدة من القوى الإقليمية والمحلية.
وبينما شكل انسحابها من عفرين عام 2018 بداية مرحلة جديدة من تركيز القوة في حلب، فإن انسحابها من الشهباء عام 2024 مثل محاولة أخيرة لتجميع أوراق القوة في مواجهة التحولات السياسية والعسكرية التي سبقت سقوط النظام المخلوع، وفي ظل هذه المعطيات، تبدو “قسد” اليوم أمام معادلة معقدة، فهي تملك أدوات الردع والقدرة على المناورة، لكنها في الوقت نفسه محاطة بمخاطر داخلية وخارجية تجعل مستقبل وجودها في حلب رهناً بتوازنات أكبر من قدرتها الذاتية.
المصدر: تلفزيون سوريا






