
في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، لم يكن محمد البوعزيزي يفكّر في التاريخ ولا في الثورات ولا في تغيير وجه المنطقة. كان شاباً تونسياً بسيطاً، اسمه الكامل طارق الطيّب محمد البوعزيزي، خرج يبحث عن رزقٍ يحفظ كرامته، فوجد الإهانة، والظلم، وشعوراً قاسياً بأن الحياة تُناكفه. عند تلك اللحظة، لم يختر الموت بقدر ما صرخ في وجه واقعٍ لم يترك له خياراً آخر.
أشعل جسده، لا ليصبح رمزاً، بل ليقول إن الكرامة حق لأي مواطن. لم يحمل سلاحاً، ولم يكتب بياناً منمقاً، ولم ينتظر حزباً أو نخبة لتقوده. عود ثقاب واحد كان كافياً ليهزّ أنظمة، ويفضح منظومة كاملة من القمع والتواطؤ. في 4 كانون الثاني/يناير 2011 رحل متأثراً بحروقه، لكن النار التي خرجت من جسده كانت قد تجاوزت تونس، وبدأت تكتب فصلاً جديداً في تاريخ المنطقة.
من سيدي بوزيد، امتدّت الشرارة إلى تونس كلّها، ثم إلى ليبيا ومصر واليمن، وبلغت سوريا. نحن السوريين، تحديداً، نعرف ماذا يعني أن يكسر أحدهم حاجز الخوف أولاً. لم يكن البوعزيزي قائداً سياسياً، لكنه هزّ أعتى الديكتاتوريات، ودقّ إسفيناً في خرائط النفوذ التي تقاسمت أوطاننا العربية لعقود. بفعله العفوي البعيد عن أي حسابات، اختلّ توازن كان يُظنّ أنه ثابت لعقود .
لكن الطريق لم يكن، ولا يزال، سهلاً. طريقنا ما زال طويلاً وشاقاً يا محمد. أبناء الثورة المضادّة ما زالوا يتربّصون، يبدّلون أقنعتهم لا مواقعهم، مرة باسم الديمقراطية، ومرة باسم حقوق الإنسان، وكأنّ أسيادهم لم يكونوا يوماً شركاء في القمع، ولا رعاة للاستبداد، ولا صانعي هذا الخراب. يحاولون تزوير اللغة، وتلميع الماضي، ومطالبة الضحية بالكمال، فيما يمنحون الجلاد أعذاراً لا تنتهي يامحمد .
تعبنا، نعم. دفعنا أثماناً باهظة، وسقط منّا من سقط، وتشرد من تشرد. حاولوا تحويل الربيع إلى خريف، وإقناعنا بأن الحلم كان خطيئة. لكن الحقيقة أبسط وأقسى: الخوف انكسر مرة، ولن يُرمّم. بين هارب، ومقتول، وسجين، ومحروق، وطريد، انتهت ممالك الرعب، حتى وإن طال زمن تصفية حسابها.
نم قرير العين يا محمد.
نحن على العهد باقون.
قد نتعثّر، قد نُرهق، لكننا لن نعود إلى القفص، لن نعود لزمن الخوف، ولن نسلّم الحلم لمن صادر الحياة يوماً. وأن من أشعل النار في قلب الظلم، لن يقوى أتباع الظالمين على محوه من الذاكرة.






