
يشكّل سقوط نظام بشار الأسد لحظة فارقة في التاريخ السوري، ليس فقط على المستوى السياسي والمؤسساتي، بل على مستوى البنية الثقافية والرمزية التي حكمت علاقة المثقفين بالسلطة لعقود طويلة.
ففي هذه اللحظة يعاد تشكيل الحقل الثقافي من جديد، وتبرز مواقف النخب الثقافية بوصفها مؤشراً على عمق التحوّلات الاجتماعية والسياسية، وعلى طبيعة الصراع المقبل حول الهوية والشرعية والسردية الوطنية.
وإذا كانت السلطة الأسدية قد نجحت في تحويل جزء من النخب الثقافية إلى “موظفي خطاب” عبر الخوف والاستتباع، فإنّ ما بعد السقوط كشف مشهداً متشظّياً تحكمه مصالح متغيرة، وتجارب قمع طويلة، وغياب تقاليد راسخة للاستقلالية.
وانطلاقاً من قراءة سوسيولوجية، يمكن تصنيف النخب الثقافية اليوم ضمن خمس فئات رئيسية تعكس اتجاهات المجتمع والسياسة، وتساعد في تفسير ديناميات الحقل الثقافي في سورية المستقبل.
مثقفو السلطة الناشئة
تضم هذه الفئة المثقفين الذين اصطفّوا سريعاً مع مؤسسات الحكم الناشئ في الشمال السوري، ووظّفوا خطابهم لإضفاء شرعية رمزية على السلطة الجديدة.
تمثل هذه الفئة الامتداد الحديث لـ”المثقف السلطوي” الذي ينحاز إلى القوة المهيمنة بحثاً عن الأمان الاجتماعي والمكانة الرمزية.
تنشأ هذه السلوكيات من علاقة تاريخية ملتبسة بين المثقف والدولة في سوريا، حيث اعتاد المثقف النظر إلى السلطة بوصفها المصدر الرئيسي للاعتراف والشرعية، وليس المجتمع. لذلك يعكس هذا التموضع استمرار نمط “التبعية الثقافية” رغم تغيّر السلطة السياسية.
مثقفو براغماتية اللحظة الانتقالية
وهم معارضون سابقون للسلطة الأسدية وجدوا أنفسهم بعد السقوط يعيدون التموضع داخل السلطة الجديدة، تحت عناوين “واقعية المرحلة” أو “ضرورات الاستقرار”.
يبرز هذا السلوك في المجتمعات التي تعيش انتقالاً سياسياً سريعاً بعد عقود من القمع، حيث تتعرض النخب لهزة في موقعها الاجتماعي والرمزي، كثير من هؤلاء المثقفين عانوا التهميش سابقاً، فتتحول مشاركتهم اليوم إلى محاولة لاستعادة المكانة المفقودة.
ويكشف هذا النمط هشاشة الحدود بين الثقافة والسياسة، وغياب مشروع ثقافي واضح لدى جزء من المعارضة، ما جعل دورهم يتشكل كرد فعل أكثر مما هو نتاج رؤية مستقلة.
مثقفو المسار الديمقراطي
تمثل هذه الفئة الصورة الأقرب للمثقف المستقل الذي يستند إلى منظومة قيمية واضحة: الديمقراطية، العدالة الانتقالية، وحقوق الإنسان.
تعبّر هذه النخبة عن “المثقف العضوي” بالمعنى الغرامشي، الذي يرى دوره في الدفاع عن قيم المجتمع لا عن السلطة. ويمثّل هؤلاء بقايا طبقة ثقافية ظلت خارج شبكات الاستتباع الأسدي، وجذورها الاجتماعية غالباً في الطبقة الوسطى المتعلمة.
ومع أن تأثيرها السياسي محدود، إلا أنها تشكّل رأس المال الرمزي الأكثر أهمية في مرحلة بناء الدولة، لكونها تنظر إلى السلطة من منظور أخلاقي لا مصلحي.
المثقفون (المعروفون شعبياً بـ”المكّوعين”)
هي فئة واسعة انتقلت من خدمة النظام السابق إلى خدمة السلطة الجديدة بالوتيرة نفسها، محافظة على أساليبها القديمة في التماهي، والولاء.
تنتمي هذه الفئة إلى شريحة مثقفين تَشكّل وعيها في ظل دولة استبدادية شمولية رسّخت قيم الطاعة والنجاة الفردية، هؤلاء يمثلون “رأس المال الثقافي الزائف”، الذي اعتمد على القرب من السلطة بدلاً من إنتاج المعرفة.
وخطر هذه الفئة أنها قادرة على إعادة تدوير السلطة الاستبدادية داخل أي نظام جديد، لأنها تحمل معها الثقافة السياسية للأسدية: الولاء بدل الكفاءة، والخوف بدل الحرية.
المثقفون المترددون في الاصطفاف السياسي
وهم مثقفون لم ينخرطوا سابقًا في الصراع السياسي، لكنهم دخلوا المجال العام بدافع وطني أو خشية على مصالح المجتمع في مرحلة التحوّل.
تنشأ هذه الفئة من “الهامش الثقافي”، الذي كان معطّلاً في الحقبة السابقة، وتمتد جذورها غالباً إلى طبقات اجتماعية أنهكتها عقود القمع والحرب.
قلقهم السياسي هو نتاج خوف متوارث من الدولة الأمنية السابقة، جعلهم يبتعدون عن الصراعات السياسية لصالح المواقف الرمادية، هذه الفئة يمكن أن تتحول إلى داعم أساسي للديمقراطية إذا توفرت لها الثقة والضمانات السياسية، أو إلى كتلة صامتة إذا تكررت أنماط الاستبداد السابقة.
كيف تعيد هذه التحولات تشكيل مستقبل سوريا؟
1- تشكّل نخبة ثقافية جديدة: مع سقوط النظام، فقدت النخب التقليدية مصادر شرعيتها، وظهرت نخب بديلة تحاول ملء الفراغ.
هذا التحول يشير إلى انتقال المجتمع السوري من بنية نخبويّة مغلقة، تحكمها الولاءات الأمنية، إلى بنية غير مستقرة تبحث عن تعريف جديد للثقافة والشرعية.
2- أزمة الهوية السياسية للمثقف السوري: يُظهر التموضع المتباين للنخب الثقافية ضعفًا بنيويًا في الهوية السياسية للمثقف السوري، وهي أزمة ترتبط بثلاثة عوامل سوسيولوجية رئيسية:
الصدع التاريخي بين الثقافة والسياسة، الذي فرضته الدولة الاستبدادية الشمولية عبر عقود من القمع.
تضخم الخوف السياسي الذي ولّد علاقة غير صحية بين المثقف والسلطة، قائمة على الاحتراس وتبديل الولاءات.
غياب تقاليد الاستقلالية المؤسسية التي تحمي المثقف من الاستقطابات السياسية.
هذه الأزمة تكشف أن المثقف السوري لم يتشكل في بيئة ديمقراطية تسمح ببناء مواقف مستقرة، بل في فضاء قمعي أنتج هويات سياسية هشة، يسهل انزياحها أو إعادة تشكيلها بحسب موازين القوة.
صراع سرديات داخل الحقل الثقافي
وفق النظريات السوسيولوجية للحقل الثقافي (خاصة عند بورديو)، يشهد أي تحول سياسي حاد صراعًا على “السلطة الرمزية”، حيث تحاول كل فئة إعادة تعريف المعنى والشرعية والتاريخ.
هذا ما يحدث اليوم في سوريا:
فئة تريد تكريس سردية “الشرعية الثورية”.
وأخرى تسعى لتمرير سردية “الواقعية السياسية”.
وثالثة تدافع عن سردية “الديمقراطية والمواطنة”.
في حين تسعى الفئات السلطوية إلى إعادة إنتاج خطاب الهيمنة القديم بصيغة جديدة، إن هذا الصراع لا يُعدّ حدثاً ثقافياً فحسب، بل هو معركة سياسية ناعمة ستحدد طبيعة المخيال الجمعي للسوريين في العقود المقبلة.
الحاجة إلى بناء الثقة وحماية استقلالية الثقافة
لأن المثقف في سوريا خرج من تجربة تاريخية مثقلة بالخوف، باتت إعادة بناء الثقة مع السلطة الجديدة شرطًا لدمج النخب الثقافية في مشروع الدولة الجديدة.
ويمكن تفسير هذا الشرط عبر ثلاثة عناصر:
الذاكرة الجمعية للقمع التي جعلت المثقفين يربطون السلطة بالقهر، لا بالشراكة.
ضعف البنى الحامية للحريات، مما يجعل أي مثقف مستقل عرضة للتهميش أو الاستهداف.
غياب مأسسة الحياة الثقافية، حيث ظل الإنتاج الثقافي مرتهنًا للعلاقات الشخصية لا للمؤسسات.
من دون هذه الضمانات، سيعاد إنتاج منطق “مثقفي السلطة”، في حين يتراجع المثقف القيمي والمستقل، ويخسر المجتمع فرصته في بناء فضاء فكري حر يسهم في صياغة مشروع وطني جامع.
خاتمة
يكشف سقوط نظام الأسد أن المثقفين السوريين لم يكونوا كتلة واحدة، بل مجموعات متباينة تشكلت تحت ضغط السلطة والقمع، وخرجت اليوم إلى العلن بخيارات مختلفة.
وبين المثقف السلطوي، والبراغماتي، والقيمي، و”المكّوع”، والمستقل القَلِق، تتشكل خريطة جديدة للصوت الثقافي في سوريا.
يبقى التحدي الأكبر اليوم في بناء علاقة جديدة بين المثقف والدولة، تقوم على الحرية والاستقلالية والمسؤولية المجتمعية. فمن دون هذه العلاقة سيظل المجال العام السوري مهدّداً بأن تحتله الفئات الأكثر صخباً، والأقل التزامًا بالقيم الوطنية والديمقراطية.
المصدر: تلفزيون سوريا






