استراتيجية ترامب: فرض استعمار جديد

لميس أندوني

قدم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، استراتيجية أمن قومي جديدة تتباين كثيراً عن بعض السياسات التقليدية للولايات المتحدة، مع حفاظها على هدف تثبيت دورها القوة الأولى في العالم غير القابلة للزحزحة. وترى هذه الخطة، من جديد، أن الشرق الأوسط لم يعد منطقة اهتمام استراتيجي لأميركا، إذ انتقل التركيز على “الأميركيتين”، خصوصاً أميركا اللاتينية، وحماية أوروبا من “التلوث” الحضاري الذي جلبه المهاجرون “غير البيض”.
قبل الدخول في محاولة تحليل رؤية ترامب العنصرية، من الضروري التوضيح أن منطقتنا لم تستفد يوماً ما من اعتبار واشنطن إياها منطقة اهتمام استراتيجية لها، فدعم أميركا غير المحدود لإسرائيل، وحرصها على عدم ارتفاع أسعار النفط والغاز وضمان استمرار ضخِّهما إلى الغرب والسيطرة عليهما، جلب وبال الحروب والتهجير على الشعوب العربية، واستدعى سعياً من الأنظمة العربية لتأمين “الدور الوظيفي” لكل منها، حتى تضمن دعم واشنطن على حساب سيادة دولها ومصالح شعوبها.
يهمنا هنا ما وراء القول إن المنطقة فقدت قيمتها الاستراتيجية، وفقاً لما ورد في استراتيجية ترامب، أنه لأول مرة لم يعد الصراع، (الإسرائيلي العربي) مهماً، بل أُنهِيَ في قمّة شرم الشيخ في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي (2025)، أي لحظة توقيع وقف إطلاق النار في غزّة، بغضّ النظر عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، فالجريمة الكبرى لا تهم واشنطن، ولكن ما كان مهماً لترامب، موافقة الدول العربية على “خطة العشرين بنداً”، والأهم على مشروع مجلس الأمن الذي وفر غطاءً قانونياً لاحتلال أميركي لغزّة.
الجريمة الكبرى لا تهم واشنطن، ولكن ما كان مهماً لترامب، موافقة الدول العربية على “خطة العشرين بنداً”
عليه؛ خَلُص ترامب ومن حوله، إلى أن ما تبقى من إتمام تطبيع عربي إسرائيلي شامل وإخضاع الفلسطينيين، ومن ثم تصفية الحقوق الفلسطينية مسألة وقت ليس أكثر. وخطر هذا التفكير ليس تفكير ترامب، إذ إنه ليس بعيداً على الرجل أن يعيش وهماً وأوهاماً، لكن الخطر الحقيقي ماهية التفاهمات العربية مع واشنطن حيال مستقبل القضية الفلسطينية وموقف العالم العربي والعلاقات مع إسرائيل. والخوف أن تكون دول عربية قد تعهدت بعدم ملاحقة إسرائيل في المحافل الدولية، وتجاهل توصيات محكمة العدل الدولية، أو الالتزام بقرارات المحكمة الجنائية الدولية. وقد تكون الأمور لم تصل إلى أيٍّ من ذلك، لكن ترامب اعتبر قبول خطته بمثابة وثيقة استسلام عربي لمشيئته ومخطّطاته.
في أي من الأحوال، لم يبنِ ترامب، بالرغم من جنون العظمة لديه، استنتاجه على فراغ، فحتى لو لم تدخل معظم الدول العربية في تفاهماتٍ معه لتصفية الحقوق الفلسطينية، فقد فهم هو وفريقه أن هناك تخلياً عربياً رسمياً عن حقوق الشعب الفلسطيني، وأنهم مستعدون للمضي في مرحلة جديدة بالابتعاد عن الالتزام، ولو كلامياً، بالقضية الفلسطينية.
في كل حالاته، يعني استنتاج ترامب أنه يريد أن يدشن استراتيجية أميركية بعد “زوال الخطر على أمن إسرائيل” وتحجيم إيران، فالخطة الجديدة مبنية على خلاصة أن لا حاجة لحرب مع إيران، بل يكفي الاستمرار في تحجيمها، وهذا يلخص إلى درجة ما سعي ما يسميه باحثون صهاينة في واشنطن عملية تنظيف أثر إيران في سورية ولبنان. أي إن الاستراتيجية تعتمد على تجاهل تام لحقوق العرب والفلسطينيين، وأي مطالب عربية، لكن استنتاج ترامب أنه حل “عقدة الأزمة” في المنطقة يعتمد على نجاح “نموذج غزّة” ومجلسه الاستعماري، فتقسيم غزّة وجعلها، في جزء منها، ثكنة عسكرية، وأجزاء أخرى ممتلكات ومشاريع عقارية ومنتجعات لأثرياء العالم، فيما يزجّ من يبقى من الفلسطينيين في تجمّعات شبيهة بنظام “البانتوستان” في عهد حكم الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.
الخطر الحقيقي يكمن في ماهية التفاهمات العربية مع واشنطن حيال مستقبل القضية الفلسطينية وموقف العالم العربي والعلاقات مع إسرائيل
لسببٍ ما، يعتقد ترامب أن المجلس الاستعماري الذي يؤسّسه سيدير عملية بناء لإرضاخ الفلسطينيين والسيطرة على أرضهم وثرواتهم، وتكون نموذجاً لمشاريع مماثلة في جنوب لبنان وجنوب سورية، ومن الممكن غور الأردن وصحراء سيناء، فكل أراضي الدول العربية مشاع في عرف ترامب وإسرائيل، أي لن ينتهي الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وفي سورية ولبنان، وإنما ستجري إعادة تعريفه بغطاء قانوني، تماماً كما يحدُث في غزّة.
لا يهمنا إذا اعتبرت واشنطن المنطقة ذات أهمية استراتيجية، لكن ما يهمنا أنه يعتقد بأنه لم يعد هناك أي تحدٍّ لنفوذها وللاحتلال والتمدد الإسرائيلي في المنطقة، فلن تكون هناك مقاومة بعد تصفية حركة حماس التي سبقها القضاء على مجموعات المقاومة في الضفة الغربية. ومن هنا، يأتي الإصرار على أن تسلِّم “حماس” وحزب الله أسلحتهما، فالقصة ليست بناء سلام في فلسطين ولا احترام الدولة في لبنان، بل كسر فكرة المقاومة.
يجب ألّا نستسلم للشعور بالهزيمة، وأن نفهم ونقدر معنى صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، ولا نتخلى عنه
عليه، علينا ألا نبالغ بالأخذ بما ورد في استراتيجية الأمن القومي باعتباره تحليلاً موضوعياً للوضع في المنطقة، لكن في الوقت نفسه علينا ألا نقلل من خطر محاولة البرهنة لأميركا أنه لا خطر يتهدد إسرائيل بالرغم من استمرار حرب الإبادة ومن توسع إسرائيل في سورية ولبنان. ولا أعني بالخطر التهديد العسكري، لكن، في أقل تقدير، التمسك بالحقوق والقتال من أجلها في كل المحافل الدولية ورفض التطبيع، وبالأخص تطبيع العقول والنفوس.
من الضروري قراءة الاستراتيجية الجديدة بشكل متكامل، فهي بمثابة إعلان حرب على أميركا اللاتينية، بإحياء صيغة جديدة من “مبدأ مونرو”، الذي وضعه رئيس الولايات المتحدة جايمس مونرو عام 1823، واعتبر أميركا الوسطى والجنوبية مناطق نفوذ لواشنطن غير مسموح للأوروبيين المضي في استعمارها. لكن هدف ترامب منع (ووقف) تغلغل الصين في تلك الدول، أي إن استراتيجية أميركا وأولويتها تقويض نفوذ الصين، و”تنقية” أوروبا والولايات المتحدة من الأعراق والإثنيات من غير البيض. وينسجم هذا تماماً مع رؤيته إلى المنطقة؛ فهو يتماثل مع العنصرية الاستعمارية الصهيونية، ويدعو إلى ممارسة تطهير عرقي من خلال طرد (أو منع) المهاجرين إلى أميركا وأوروبا.
الفرق أن إسرائيل تتولّى في منطقتنا المهمة، فيما يهندس ترامب وفريقه وسائل جديدة للتفوّق واستعمار المنطقة تحت مسمّيات مموهة ومختلفة، أي أننا أصبحنا تحت السيطرة، لن أقول تحت “بسطار ترامب”، وإن كان ذلك ما يعتقده. لذا، يجب ألا نفرح إن اعتبرت واشنطن أنه لا خطر على أميركا وإسرائيل في الشرق الأوسط، لأن ذلك يعني التمادي في الإهانة والابتزاز أميركياً، وفي القتل إسرائيلياً. الأهم أن استراتيجية أميركا الجديدة خطرٌ علينا وعلى كل الشعوب. ولكننا يجب ألّا نستسلم للشعور بالهزيمة، وأن نفهم ونقدر معنى صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، ولا نتخلى عنه، ففلسطين تبقى خط الدفاع الأول بوجه الاستعمار الجديد المنقض علينا.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى