معالم ومخاطر بين “الانتقالية” و”الشمولية” في الحكومة السورية

د. عبد المنعم حلبي

منذ لحظة سقوط النظام السوري قبل سنة كاملة، بدا للجميع أن مرحلة جديدة من تاريخ سورية قد بدأت من دمشق، مرحلة عنوانها الأولي، موضوعيًا، أنها مرحلة انتقالية بكل معنى الكلمة: انتقال من دولة الاستبداد إلى دولة المؤسسات، من حكم الفرد إلى حكم القانون، ومن الشعارات القسرية إلى المشاركة الشعبية وإدارة التنوع. غير أن الواقع كان يسير –على ما يبدو لكثير من السوريين– باتجاه آخر، لتتكشف لهم يومًا بعد يوم مفارقة معقدة؛ فالحكومة التي يُفترض أنها “انتقالية”، والتي قامت على دمج الوزارات والصلاحيات بدواعي تحقيق مستويات أعلى من التنسيق والفعالية، انتقلت مع الوقت إلى العمل المركزي والشمولي، متسلحةً بقوانين وإجراءات سابقة طبعت عقودًا مضت، وذلك بحجة عدم وجود البديل، وبانتظار مجلس الشعب المُؤخّر، في الوقت الذي يتم فيه إصدار كل ما يلزم من مراسيم لزيادة الهيئات وتعزيز وترسيخ أذرع ومركزية السلطة التنفيذية. هذه المفارقة بين الشكل الانتقالي والسلوك الشمولي شكلت أهم معالم اللحظة السورية الراهنة بالنسبة لشريحة واسعة من السوريين، وفي مواجهة سؤال مهم للغاية: هل نحن أمام حكومة انتقالية حقًا، أم أننا أمام حكومة تعمل على إعادة إنتاج ناعمة، وأحيانًا خشنة، لمنظومة سابقة، بوجوه جديدة؟!
من الناحية الرسمية، تُقدَّم الحكومة الحالية باعتبارها حكومة مهمتها الأساسية تهيئة البلاد لمرحلة دائمة أكثر استقرارًا، عبر إعادة بناء مؤسسات الدولة، ومعالجة آثار الحرب والانهيار الاقتصادي، وإطلاق مسار دستوري، وصولًا لنظام سياسي جديد جامع. ومن الناحية الخطابية، يجري التأكيد من حين لآخر على أن عهد هذه الحكومة ليس سوى مرحلة مؤقتة، وأنها تسعى إلى ضمان انتقال سلمي وآمن لسلطة دائمة لاحقًا. ولكن كثيراً من المتابعين لتصرفات هذه الحكومة وإجراءاتها وإعلامها الرسمي، يدركون أن القناعة الداخلية بهذا الدور ليست راسخة، وأن الممارسة اليومية لا تزال أسيرة أدوات التحكم والسيطرة التي طبعت العديد منها النظام السابق لعقود طويلة.
لا يمكن تجاهل الظروف الضاغطة والصعبة التي تعمل تحت وطأتها الحكومة الحالية. فالدولة كانت شبه منهارة، والاقتصاد متداعٍ، والخدمات الأساسية في معظم المناطق تحتاج إلى إعادة بناء شاملة.
وهكذا يشير مراقبون إلى أن الحكومة تميل إلى إدارة العديد من الملفات الحيوية بذهنية متقادمة، قائمة على المركزية الشديدة وضعف في الشفافية، فتشير إلى وجود رغبة داخل دوائر الحكم في فرض إيقاع سياسي سريع يهدف إلى إحكام السيطرة على المرحلة، عبر شركاء خارجيين ومحليين، وهو أمر يتناقض جوهريًا مع روح المرحلة الانتقالية التي يُفترض أن تُبنى على التشاور، وتوسيع هامش الحرية، وإشراك القوى السياسية والمجتمعية في صياغة المستقبل. فعلى الرغم من الخطاب المتكرر حول الانفتاح، ما زال السوريون يفتقرون إلى رؤية واضحة لخطط العمل الفعلية لحكومتهم، سواء فيما يتعلق بإعادة بناء الاقتصاد، أو هيكلة مؤسسات الأمن، أو وضع أسس العدالة الانتقالية التي لا يمكن تجاهلها بعد ما عاشته البلاد. ما يثير الشكوك حول مدى الالتزام بإعادة توزيع السلطة، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، بشرائحه كافة، وليست انتقائية، ولاسيما في ظل التأخير المستمر لمجلس الشعب المُعين أصلًا بصورة مباشرة لثلثه، وبصورة غير مباشرة لثلثيه.
إن الإصرار على نمطية الإعلام الحكومي، وضبط المجال العام عبر تجييش وحشد مستمر للبيئة الحاضنة، أو المؤيدين الجدد من المعارضين، أو المنتقلين من التأييد للنظام السابق، وضبط الحريات السياسية –مركزيًا– بحجة الحفاظ على الاستقرار، كلها مؤشرات تدل على أن الحكومة ما تزال غير مقتنعة تمامًا بأنها سلطة انتقالية ومؤقتة. فالسلوك الانتقالي يتطلب الاعتراف بأن السلطة ليست غاية بحد ذاتها، وأن مشروع المرحلة هو تمكين السوريين من اختيار مستقبلهم بحرية، لا إدارة البلد بنفس الأدوات القديمة بواجهة جديدة. فالشمولية بطبيعتها لا تؤمن بالمؤقت، ولا تعترف بمرحلة انتقالية، بل تميل دائمًا إلى ترسيخ نفسها بوصفها الخيار الطبيعي والوحيد.
على الجانب الآخر، لا يمكن تجاهل الظروف الضاغطة والصعبة التي تعمل تحت وطأتها الحكومة الحالية. فالدولة كانت شبه منهارة، والاقتصاد متداعٍ، والخدمات الأساسية في معظم المناطق تحتاج إلى إعادة بناء شاملة، كما أن المشهد السياسي بقي مليئًا بصراعات القوى الخارجية والداخلية. هذا الواقع يجعل من أي حكومة –مهما كانت نواياها– أكثر ميلًا للحزم والصرامة في محاولة لفرض الحد الأدنى من الاستقرار. غير أن الفرق بين الإدارة الانتقالية الفعالة والإدارة الشمولية يكمن في طريقة التعامل مع هذه الضغوط: فالحكومة الانتقالية تحاول احتواءها عبر المشاركة والشفافية، في حين تحاول الحكومة الشمولية احتواءها عبر التحكم وفرض السيطرة.
ولعل أكثر ما يكشف جوهر السلوك الحكومي هو الطريقة التي تتعامل بها مع ملف تشكيل المؤسسات الدستورية والسياسية الدائمة. ففي الوقت الذي ينتظر فيه كثير من السوريين خارطة طريق واضحة لتنشيط الاقتصاد الوطني ورفع مستوى الخدمات العامة وتحسين واقع البيئة القانونية والتشريعية الناظمة للحياة الاقتصادية، وصولًا لكتابة دستور جديد وبناء بيئة سياسية لولادة نظام سياسي يلبي طموحاتهم، لا تزال الخطوات المتخذة أقرب إلى إجراءات إدارية محدودة لا ترتقي إلى مستوى التغيير العميق المطلوب.
التوازن المطلوب إنجازه من الحكومة عملية صعبة ودقيقة، لكن تحديد الهدف والمنهج أمر لا يمكن تأجيله طويلًا..
وفي الحقيقة، فإن مشاعر كثير من السوريين تجاه الحكومة السورية الانتقالية يختلط فيها الخوف من أن تكون غير راغبة في ممارسة طبيعتها الانتقالية، مع التخوف من عجزها أصلًا عن القيام بأعباء ومتطلبات هذه الطبيعة والصفة، وبذلك يتحول الانتقال إلى حالة دائمة تُطيل عمر الهشاشة السياسية والأمنية، وتبقي البلاد في منطقة رمادية بين الاستبداد والحرية. هذا النوع من “الانتقال غير المنتقل” هو الذي أدى في تجارب أخرى إلى إعادة إنتاج أنظمة سلطوية بآليات جديدة وتحت مسميات إصلاحية.
ومع ذلك، فلا تزال هناك فرصة حقيقية لإحداث تحول حقيقي إذا ما اقتنعت الحكومة بأن قوتها في مرحلتها الانتقالية المؤقتة لا تأتي من قدرتها على التحكم، بل من قدرتها على بناء الثقة، وتوسيع المشاركة، وفتح المجال العام، كحكومة عبور إلى المستقبل، وليست حكومة شمولية تفرض نفسها على السوريين، فتفقد صفة الانتقالية، وتنهار ثقة السوريين بها، وتفتح الباب أمام صراعات سياسية واجتماعية قد تعيد البلاد إلى المربع الأول، كما حصل في ليبيا واليمن، ويحصل حاليًا في السودان.
وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب في سورية لن يكون بقرارات وإجراءات وقواعد لعب تُفرض على السوريين واقعًا معينًا كنتيجة نهائية، بل هو نظام سينتج عن عملية تُبنى عبر خطوات صغيرة ولكنها متتابعة ومستمرة، وتبدأ أولًا بإرادة حقيقية للاعتراف بأن السلطة في زمن الانتقال ليست ملكًا للحكومة، بل أمانة عندها عن الشعب، ولابد للسوريين أن يشعروا بأن هذه السلطة قادرة على تمثيلهم جميعًا في يوم ما ليس بعيدًا.
وعلى الرغم من الإدراك التام بأن سوريا ستبقى زمنًا ليس بقصير في قلب مرحلة تاريخية شديدة الحساسية، تتداخل فيها الحاجة إلى الاستقرار مع الحاجة إلى التغيير، وتتصادم فيها رواسب الماضي مع تطلعات المستقبل. وأن التوازن المطلوب إنجازه من الحكومة عملية صعبة ودقيقة، لكن تحديد الهدف والمنهج أمر لا يمكن تأجيله طويلًا، إذ يتوجب على الحكومة السورية أن تحدد هدفها وهويتها ونهجها أمام معادلة صعبة: فإما أن تكون حكومة انتقالية تمهد لميلاد دولة جديدة، وإما أن تتحول إلى نسخة معدلة من الشمولية، وتبني على أساس قرارها المعالم والمخاطر الفاصلة التي سيرسم اتجاهها شكل سوريا لعقود قادمة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى