
ربما كانت دول الخليج العربية من أكثر الدول التي تنفّست الصعداء بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد، بسبب وجع الرأس الذي أصابها، 14 سنة، نتيجة سياساته وتحالفاته وحربه على الشعب السوري، وتسبّبه بالتوتر والقلاقل في المنطقة والمحيط، وبسبب المشكلات اللاحقة لتجارته في الحبوب المخدّرة وإغراق الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج، بها. لذلك سارعت هذه الدول إلى دعم السلطة الجديدة، معنوياً ومادياً، بعدما اتضحت علائم الحكم فيها، وبعد تنصيب أحمد الشرع رئيساً للبلاد. وإذا كانت العقوبات الدولية التي فُرضت على النظام السابق قد حالت دون تدفق الدعم المادي والاستثمارات من دول الخليج إلى سورية، فإن أي لوم لا يقع على هذه الدول، بقدر ما تُلام السلطة الجديدة بسبب عدم تنفيذها الإجراءات والشروط التي طُلبت منها لكي يعود المجتمع الدولي ويتعامل معها دولةً طبيعية، تتلقّى المساعدات وتصبح أرضيتها مناسبة لقدوم الاستثمارات، وتعبّد الطريق للتعافي وإعادة الإعمار.
يأتي هذا الكلام، بعد اختتام قمة قادة دول مجلس التعاون الخليجي، قبل أيام في المنامة، وتجديدهم في بيانها الختامي دعم سورية، وتأكيدهم أهمية احترام سيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها ورفض التدخلات في شؤونها. وفي ما يخص إعادة توحيد أراضيها واستقرارها ووقف التوتر بين أبناء الشعب، دعا البيان “جميع الأطراف السورية إلى تغليب لغة العقل والحوار، ونبذ دعوات الانقسام، وتعزيز التكاتف بين أبناء الشعب السوري بما يسهم في استكمال مسيرة بناء الدولة السورية الجديدة”. وعن الاعتداءات الإسرائيلية، شدّد البيان على سوريّة هضبة الجولان، ودان الاستيطان الإسرائيلي فيها، كذلك دعا إلى وقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب من الأراضي التي احتلتها القوات الإسرائيلية أخيراً، ودعا المجتمع الدولي إلى القيام بدوره في هذا الإطار. وبينما رحب بجهد السعودية لدفع الولايات المتحدة إلى رفع العقوبات عن سورية لدعم اقتصادها، رحب، في المقابل، بالخطوات التي اتخذتها دول خليجية للاستثمار في سورية، وتشغيل بعض القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها.
لدى الدول الخليجية هموم داخلية كثيرة تحتاج أن توليها الاهتمام المطلوب من أجل التصدّي لها، من أجل استكمال مشاريع التحديث التي شرعت فيها
وليس هذا الأمر جديداً، فمن منطلق المساهمة في حل الأزمة السورية، خلال حكم الرئيس المخلوع بشّار الأسد، طرحت دول الخليج، وعدة دول عربية، مبادرات كثيرة لتغيير سلوك الأسد من أجل حل هذه الأزمة والدخول في سياق التسوية السياسية. غير أن الأسد كان يمتنع عن التزام هذه الاتفاقات، وفي مرّات كثيرة، كان ينقلب عليها، ومنها محاولة إعادة تأهيله، وإرجاع كرسي سورية في جامعة الدول العربية إلى نظامه. ثم الاتفاق أخيراً، وعظيم الأهمية، الذي أطلقه الأردن ضمن مسار وأجندة للأولويات وفق مبدأ “خطوة مقابل خطوة”. لكن الدول العربية، بعدما تأكّدت لها صعوبة إعادة تأهيل الأسد بسبب انقلابه، وعدم التزامه كل الاتفاقات معه، نفضت أياديها منه، وكانت عملية ردع العدوان التي كانت بداية نهاية نظامه.
… بعد مرور سنة على إسقاط نظام الأسد، حري السؤال عن حدود الدعم الخليجي المتواصل لسلطة دمشق، من أجل مساعدة البلاد على التعافي، عبر الدخول في مسار التسوية السياسية لأزماتها، من أجل البدء بإعادة بناء الاقتصاد والعمران، بعد تأهيلها قطاعاتها الإنتاجية والخدمية، وكذلك إقفال الملفات العالقة التي تحتاج الجرأة للبتّ بها، خصوصاً تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية الذي يمكن أن يسير بالبلاد نحو تخفيف التوتر والمصالحة الوطنية. وفي هذا السياق، يبرز موضوع الاتفاق مع الفاعلين في السويداء وشرق الفرات وشمال شرقه، عبر التوافق على مطالبهم الخاصة بالكونفدرالية أو اللامركزية، علاوة على طريقة إدماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الجيش. ومؤكّد أن دول الخليج لن تتوقف عند حد، إيماناً منها بضرورة التسوية في سورية التي تحتاجها هي من أجل الاستقرار في المنطقة العربية التي تشهد بؤر توتر كثيرة، تعد سورية البؤرة الأكثر قابلية للتسوية هذه الفترة، إذا اتفق أبناؤها بمساعدة الدول العربية التي أبدت استعدادها لاستمرار المساعدة في كل المجالات. وتحتاج دول الخليج ذلك وتريده، نتيجة ما عانته من مشكلاتٍ تسبب بها نظام الأسد، الذي أثبت سلوكه الشاذّ القدرة الكبيرة على التأثير في الدول المحيطة، على الرغم من الضعف الذي كان عليه.
لا يمكن لدول الخليج الاستمرار في انتظار السوريين إلى ما لا نهاية، للشروع بالتسوية السياسية من أجل الانتهاء من تهيئة الأرضية المناسبة
من جهة أخرى، لدى الدول الخليجية هموم داخلية كثيرة تحتاج أن توليها الاهتمام المطلوب من أجل التصدّي لها، من أجل استكمال مشاريع التحديث التي شرعت فيها، والتي تشكل تحدّياً وجودياً لها. وهو ما برز في البيان الختامي لقمة المنامة، وخصوصاً التركيز على الخطوات الاتحادية، من أجل الانتقال من “مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد”، تنفيذاً لمقترح ملك السعودية الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، وما تتطلبه هذه الخطوة من سعي خطوات الترابط والتكامل وتنسيقها، وتعزيز أمنها المشترك، خصوصاً مع أهمية هذا الأمر للتصدي للتهديدات الكبيرة التي تطاول دول المنطقة، وجديدها أخيراً العدوان الإسرائيلي على قطر، وتهديد قادة الكيان الإسرائيلي دول المنطقة. ومن هنا جاء التنويه في القمة بما بذلته الدبلوماسية القطرية، وما تبذله، من أجل إخماد بؤر التوتر، وتثمين دورها في اتفاق السلام في الكونغو الذي وُقّع في الدوحة، في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
ما زالت مشكلات كثيرة تشغل السوريين، وتحتاج زمناً طويلاً حتى تجد طريقها للحل، ومنها على سبيل المثال مشكلة النازحين واللاجئين الذين قالت عنهم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في تقرير لها قبل أيام إن عودتهم لا تخفف الكارثة الإنسانية في البلاد، بسبب حاجة من عاد إلى سورية، ومن بقي في مخيمات النزوح، للمساعدات الإنسانية الضرورية، خصوصاً أن المناطق التي عاد إليها أكثر من ثلاثة ملايين نازح ولاجئ، مناطق متضرّرة، ونسبة كبيرة من منازلها غير صالحة للسكن، وتعاني من غياب الخدمات الأساسية والبنية التحتية وعدم توفر المياه والمدارس والمراكز الصحية، وهو ما يعد تحدياً أمام الحكومة لإيجاد السبل من أجل التغلب على هذه المشكلات.
لا يمكن لدول الخليج الاستمرار في انتظار السوريين إلى ما لا نهاية، للشروع بالتسوية السياسية من أجل الانتهاء من تهيئة الأرضية المناسبة التي تسير بالبلاد نحو التعافي الذي يتوقف على تنفيذ الشروط التي وضعها المجتمع الدولي من أجل رفع العقوبات، وبالتالي، دخول الاتفاقات الاقتصادية والتجارية الموقعة مع الحكومة السورية حيز التنفيذ، بعد السماح بحركة الرساميل الدولية نحو سورية. وحتى ذلك الوقت، ليس معروفاً متى يبدأ مسار التسوية. ولهذا، قد يحتاج الأمر من دول الخليج جعل دبلوماسيتها تتدخل لتعجيل التسوية، على غرار ما فعلت الدبلوماسية القطرية في الكونغو ونجحت.
المصدر: العربي الجديد




