
رغم الخطاب العدائي الذي لا يتعب دونالد ترامب من توجيهه ضد المهاجرين، ولا سيما غير الشرعيين منهم، فإن انتخابات 2024 الأميركية كشفت ظاهرة لا يمكن تجاهلها، ويمكن تعميمها على دول غربية أخرى. فقد حصل ترامب على نسبة متزايدة من أصوات الناخبين السود واللاتينيين والآسيويين. مشهد يبدو متناقضاً للوهلة الأولى، لكنه، عند التمعّن والتحليل، يعكس تحولات أعمق في السياسة الأميركية وفي معنى الهوية الانتخابية داخل مجتمع يتغيّر بسرعة.
منذ سنوات، باتت الهجرة في قلب الاستقطاب السياسي، وغالباً ما يجري تناولها بوسائل مشحونة بالرموز العرقية والدينية. ومع ذلك، يتراجع الوزن المباشر للانتماء العرقي كعامل محدّد للتصويت. في السياسة الأميركية، مفهوم العرق لا يعود إلى لون البشرة فقط، بل إلى تاريخ من تجارب التمييز وعدم التمييز، ومعه عناصر ثقافية متوارثة. ورغم استمرار استخدام هذه الفئات في الإحصاء والرصد والمقاربات السياسية، فإن قدرتها على تفسير السلوك الانتخابي لم تعد كما كانت.
وبالعودة الى ما جرى في 2024، وما ينتظر أن يجري في المستقل القريب في أميركا وسواها من دول العالم الغربي على الأقل، لا بد من الرجوع إلى التحوّل الكبير الذي أحدثه قانون الهجرة لعام 1965، حين ألغت الولايات المتحدة القيود العرقية التي حكمت سياستها طوال العقود السابقة لهذا القانون. أدى ذلك إلى موجة هجرة قانونية واسعة، وإلى تنويع غير مسبوق في البنية الديموغرافية. منذ السبعينيات وحتى اليوم، دخل عشرات الملايين بصورة شرعية، فيما جاءت غالبية الوافدين من أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، ما جعل الأغلبية البيضاء تشعر بأنها في موقع انحسار مستمر.
هذا الانزياح الديموغرافي كان كفيلاً بإحياء سياسات الهوية داخل قطاعات بيضاء تخشى فقدان موقعها النسبي. وهنا وجد ترامب، منذ 2016، منفذاً مثالياً من خلال تحويل الهجرة غير النظامية إلى رمز للتهديد الديموغرافي. وفعلاً، الرفض الشديد للهجرة في المطلق كان ولا يزال أحد أقوى المتغيرات المفسّرة للتصويت الجمهوري.
لكن التركيز السياسي على الهجرة لا يعكس فشلاً موضوعياً في اندماج المهاجرين، بل فجوة بين تفضيلات الناخبين الذين يريدون حدوداً أكثر انضباطاً من جهة، وبين سياسات حكومية أحياناً ملتبسة، وأحياناً محكومة بتوازنات اقتصادية وسياسية تمنع التشدد الذي يطالب به جزء من الرأي العام من جهة أخرى. فوق ذلك، يزيد التشابك البيروقراطي الأميركي من صعوبة تنفيذ سياسات الهجرة بصرامة كاملة، ما يغذي الانطباع بأن الدولة عاجزة، وهو انطباع يلتقطه ترامب بخبث ويحوّله إلى رأس مال انتخابي كغيره من اليمين الغربي.
وسط هذه الخلفية، تظهر المفاجأة الكبرى من حيث التقدّم غير المسبوق لترامب وسط الناخبين غير البيض من السود واللاتينيين والأسيويين. فكيف يمكن تفسير ذلك؟
أولاً، ينتمي جزء واسع من هذه الأقليات إلى الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، ما يجعلهم أبعد عاطفياً وسياسياً عن المهاجرين الجدد الذين يستهدفهم خطاب ترامب. كثير منهم لا يجد سبباً عملياً ليشعر بالتضامن مع موجات جديدة آتية من فنزويلا أو أميركا الوسطى. والأهم، فإن أولوياتهم الاقتصادية والاجتماعية باتت أقرب إلى تلك التي تحرك الناخب الأبيض من الطبقة الوسطى، كما التضخم، والضرائب، والقيم الدينية، والانزعاج من كلفة الهجرة غير النظامية.
ثانياً، تمكّن الحزب الجمهوري من توظيف محدودية الوزن الانتخابي للأقليات، رغم تزايد حضورها الديموغرافي. فاللاتينيون، على سبيل المثال، يشكّلون شريحة سكانية كبيرة، لكن جزءاً صغيراً منهم يحمل حق التصويت فعلياً، كما أن مشاركتهم في الانتخابات تبقى أقل من معدّل مشاركة البيض. يضاف إلى ذلك أنهم يتركّزون في ولايات تُعدّ محسومة سياسياً سلفاً، ما يقلّل من تأثيرهم المباشر في النتائج على المستوى الوطني.
ثالثاً، داخل المجتمع الأسود تحديداً، بدأ يظهر تشقق في الولاء التقليدي للديمقراطيين. قد يكون بعضه مرتبطاً بالتحولات الدينية (صعود التيارات البروتستانتية المحافظة)، وبعضه مرتبط بالنوع الاجتماعي والتعليم. وبرز تباين واضح بين مواقف الرجال والنساء داخلمجتمعات السود واللاتينيين. فقد بدا أن رجال هاتين الشريحتين أكثر ميلاً للتصويت لترامب مقارنة بالنساء، وهو ما يمكن تفسيره جزئياً بجاذبية خطابه ذي الطابع الذكوري لدى فئات محددة من الرجال.
وفي السياق نفسه، يبرز أيضاً التحوّل داخل شريحة العرب الأميركيين، وإن كان أقل تناولاً في الإعلام. فهذه الكتلة التي ارتبطت لسنوات طويلة بالحزب الديمقراطي بدأت تُظهر ميولاً أكثر تشتتاً، مع ارتفاع ملحوظ في نسبة من يتجهون نحو ترامب أو على الأقل يبدون انفتاحاً على خيارات جمهورية (كبعض السوريين مؤخّراً). جزء من هذه الدينامية مرتبط بشعور بالإحباط من الخطاب الديمقراطي تجاه قضايا الشرق الأوسط، خصوصاً فلسطين، مقابل اعتبار بعض الناخبين العرب أن خطاب ترامب الاقتصادي ونبرته الحاسمة في القضايا الداخلية أكثر انسجاماً مع مصالحهم اليومية، فيما يخصّ الضرائب إلى الأعمال الصغيرة والتعليم. وبذلك ينضمّ العرب الأميركيون إلى قائمة الشرائح التي لم تعد تصوّت بشكل آلي، بل باتت أكثر براغماتية، ما يزيد من تعقيد المشهد الانتخابي ويجعل رصد اتجاهاتها مهمة غير مضمونة لكل من الحزبين.
النقطة الأكثر إثارة للاهتمام تأتي من أبحاث جديدة تشير إلى أن تراجع حدة العزل السكني والاجتماعي بين السود تدريجياً، وبشكل متفاوت حسب المناطق، قد يؤدي إلى تصويت أكثر تنوعاً داخل هذا المجتمع. أي أنّ الاندماج، لا الانعزال، قد يكون أحد محركات التحول السياسي. من يتواصل يومياً مع البيض ويتشارك معهم المدارس أو أماكن العمل يميل إلى التصويت بطريقة أقل جماعية وأكثر فردانية.
هناك مفارقة ظاهرة إذاً، حيث أقليات تصوّت لمرشح يهاجم الأقليات ويحارب الهجرة. والأمر ليس لغزاً بقدر ما هو مؤشّر على شكل جديد من “الاندماج” الأميركي إن جاز التعبير. اندماج سياسي، لا يقوم على التضامن العرقي، بل على تفاعل المصالح الفردية، وعلى التوجهات الاجتماعية المحافظة، وعلى شعور عند بعض الناخبين بأن قضايا الاقتصاد والأمن تتقدم على مسألة حقوق الانسان والهوية. ترامب لم يربح رغم خطابه، بل بفضله. فخطابه يحرّك البيض القلقين، لكنه لا يرعب الجميع، وبعض غير البيض يراه مجرد ضوضاء خطابية في حملة أساسها الاقتصاد.
لا يمكن الجزم بأن هذا التحرك دائم، لكنه يكشف عن مشهد أميركي جديد، أقل قابلية للتصنيف، وأكثر ديناميكية مما يبدو. والسنوات المقبلة ستختبر ما إذا كان هذا المسار عرضياً أم بداية إعادة تشكّل عميق في التحالفات الانتخابية داخل الولايات المتحدة الأميركية.
المصدر: المدن





