في تأويل مقترح “الحكم الذاتي” مغاربياً

عبد القادر الشاوي

بقطع النظر، من الزاوية الديمقراطية، عن الموقف السياسي الذي يمكن اتخاذه، بناءً على تحليل معين، من المقترح المغربي المتعلق بـ”الحكم الذاتي” في الصحراء، وهو مقترح، لطبيعته، موجب للاختلاف والخلاف الفكريين، للمعارضة وللموافقة السياسيتين، للرفض وللقبول الطَلَبِيَّيْن، أو ما شئت من التصوّرات التي يمكن أن تُعَلَّلَ بالحجة أو بالسند أو بالتأويل، فإنَّ ما يمكن وصفه بـ”السكوت السياسي”، أو ما لا يقال علانية على وجه إضمار الرأي، فيه ضِديّاً، كما أرى، التعبير الأمثل عن الموقف العلني المفروض قوله مهما كانت قيمته، والتعبير عنه في وجه أي اختيار مهما كانت حُججه، باعتباره، كما يُقال، “قراراً مستنيراً” يتضمّن مبدئياً تقييماً معيناً يتوخى عملية ترسيخ وجهة نظر، أو موقف بشأن قضية معيّنة. وقد يكون ذلك، بخصوص القضايا الخلافية التي تهم الأوطان والإنسان، لإشهاد الآخرين على رأي، أو تصوّر، كما هو المقرّر على وجه الخصوص في “علم” السياسة.
أزيد على هذا أن “السكوت السياسي” فوق أنه يمكن أن يُؤول “صمتاً اعتراضيّاً”، فإنه، بسببه، يكون معارضة صامتة بالتأكيد، ويمكن اعتباره، إذا ما شرحتُه، قولاً “غير مُباحٍ”، أو تصريحاً بعدم الاتفاق الذي لا يرغب الطرف الذي انتهى إليه في قوله علانية، وقد يبوح به سرّاً، لأسباب يراها في الحياد الإيجابي مثلاً، أو في عدم التدخّل في شؤون بلدٍ ما، وأيضاً كرغبة خاصة للإبقاء على درجة العلاقة بين بلدين جارين في مستوى تبادل المصالح الضرورية لحاجة من الحاجات التي يفرضها التطور السياسي، أو الاقتصادي، أو الجيوسياسي، عندما يتعلق الأمر بالتحالفات ضمن استراتيجية إقليمية أو دولية معينة.
ينطبق هذا العرض بصورة خاصة على الدول المغاربية الثلاث (من خمس دُوَلٍ) في علاقة بقرار مجلس الأمن الخاص بالصحراء الغربية، انطلاقاً من خطّة الحكم الذاتي التي اقترحتها الدولة الخامسة التي هي المغرب، وامتنعت عن التصويت عليها الدولة الرابعة التي هي الجزائر. والموضوع المثير هنا أنّ الدول المغاربية (موريتانيا، تونس، ليبيا) لم تبد أي اهتمام يذكر، أو هو قليل غير مباشر عبَّر عنه مهتمون مدنيون، كذلك لم تعلن أي موقف رسمي، بخصوص القرار الصادر يوم 31 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، يؤيد تلك الخطة، ويدعو مختلف “الأطراف”، في فقرة أساسية من فقراته، إلى “المشاركة في المناقشات من دون شروط مسبقة، وعلى أساس خطّة الحكم الذاتي المقترحة من المغرب، بغية التوصل إلى حلٍّ سياسي نهائي ومقبول من الطرفين، يضمن تقرير مصير شعب الصحراء الغربية، ويعتبر أن الحكم الذاتي الحقيقي يمكن أن يشكل أحد أكثر الحلول واقعية، ويشجّع الأطراف على طرح أفكارها دعماً لحلٍّ نهائي مقبول من الطرفين…”. ورغم أن دولتين (تونس وليبيا) من الدول الخمس لا علاقة لهما بالموضوع، ولعلهما غير معنيتين به مباشرةً، إلا أن الدعوة الأممية إلى “المشاركة في المناقشات”، إذا ما فهمنا دواعيها الكبرى التي يمكن أن تكون على علاقة برعاية الاستقرار وضمانه، والتطور السلمي، وتنقية الأجواء الإقليمية من جميع الخلافات القاتلة، فإنها، على الأرجح، تتعلق أيضاً بالأمن الإقليمي الشامل الذي يمكن اعتباره أساً من أسس السيادة الوطنية المشروعة، علماً أن المنطقة المغاربية برمتها تعيش، منذ فترة، ظروفاً استثنائية تستحكم فيها الفرقة والعداوة والمنافسة الشرسة، وتسودها الدعوات الوطنية ذات البعد الشوفيني، بوصفها المبرّر الأقوى للدفاع عن الخصوصيات المفترضة، هذا إذا لم تكن الوضعية بين بعض بلدانها، بسبب الحدود التاريخية الموروثة عن الاستعمار، على أبواب حروب وطنية لإعادة رسم الجغرافيا السياسية على الأرض كما هي في العقول.
امتناع الدولة الجزائرية عن التصويت على القرار الأممي المتعلق بالصحراء الغربية هو، في الحقيقة، بمثابة إقرار منها بما تدّعيه الدولة المغربية عليها أنها طرف أساسي في النزاع
للملاحظ أن يُدرك، في هذا السياق، كيف أن امتناع الدولة الجزائرية عن التصويت على القرار الأممي المتعلق بالصحراء الغربية هو، في الحقيقة، بمثابة إقرار منها بما تدّعيه الدولة المغربية عليها أنها طرف أساسي في النزاع منذ نصف قرن تقريباً، ولها عليه الكثير من الدلائل والصيغ والمواقف المعروفة، نتيجة سببين بارزين على الأقل: السياسة الجزائرية المتبعة في الدفاع عن الحق في تقرير المصير بمختلف الوسائل العسكرية والدبلوماسية والإنسانية من ناحية، والتنافس على الزعامة الإقليمية مع الدولة المغربية على مستويات كثيرة، أهمها السياسية والاقتصادية والعسكرية من ناحية ثانية. ما يعني، لتأثير السببين المذكورين في الوعيين، الفردي والجماعي، فضلاً عن تاريخيهما الطويل، والشحن الإعلامي الذي يُروّجهما على صَعِيدَي البلدين، أنّ المصلحة السياسية المباشرة، مقرونة بالتصور الإيديولوجي الموروث عن فترة التحرّر الوطني، ومطامح “البناء الاشتراكي”، ومشايعة التوجهات المُقَاوِمَة، وفي ذلك كله مصالح وطنية لا تخفى، هي التي كانت وراء الموقف، ارتكازاً واستدلالاً وَمَرَاجِعَ إيديولوجية مُسْعِفَة. والحقيقة أن الدولة الجزائرية لا يمكن أن تتصرّف رسمياً إلا على هذا الأساس، ولذلك أطنب ملاحظوها الوطنيون في تفسير امتناعِها عن التصويت، فانشرح بعضهم لرفضها “الإقرار الضمني بمقترح الحكم الذاتي”، وهلل آخرون لتشبثها “بحل الاستفتاء من أجل تقرير المصير”، وأثنى التكتيكيون منهم على تجنّب “المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، صاحبة المشروع”. ثلاثة تعليلات مفترضة لها طابع ظرفي، وهي مُغَالِطَة لاعتبار واحد، متضمّن في القرار الأممي نفسه، حين يشير صراحة إلى مسألتين متجاورتين (ضمان حق تقرير مصير شعب الصحراء الغربية، واعتبار أنّ الحكم الذاتي الحقيقي يمكن أن يشكّل أحد أكثر الحلول واقعية).
لأول مرة، تنجح الدولة المغربية في تثبيت مقترحها في نقطتين: كأساس “لخطة الحكم الذاتي المقترحة” بغية التوصل إلى حل سياسي نهائي ومقبول من الطرفين. وفي ارتباط مع هذا، اعتبار “الحكم الذاتي الحقيقي” أحد أكثر الحلول واقعية. وَلِمُلاحِظ “القضيةِ الوطنية” المغربي أن يُعَلّل هذا التثبيت على الوجه الذي قد يظهر له أفيد في التحليل، أو في الدعم، فله من العوامل السياسية الجديدة أكثر من منطلق وإشارة: كاتفاقية أبراهام، أو العلاقة الخاصة بالحكومة الأميركية في عَهْدَي ترامب من حيث المصالح والاستراتيجيات، بما في ذلك العسكرية، إلى جانب التوازنات الممكنة التي يجب الحفاظ عليها في المنطقة المغاربية والبحر الأبيض المتوسّط، إلخ. ولكن العوامل السياسية القديمة هي التي ترتبط، في رأيي، بطبيعة النزاع نفسه، وتطوراته المختلفة على الصعيد الإقليمي، والتداعيات التي له على الصعيد الدولي في علاقة بميثاق الأمم المتحدة (الفصل السادس منه) والقانون الدولي (المفاوضات، الوساطة، التحكيم ومبدأ تسوية النزاعات بالوسائل السلمية)، بالإضافة إلى الأثر المباشر الذي لهذا النزاع على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسواها في المغرب نفسه.
أضيف إلى هذا أن للنزاع، بحكم تاريخيّته، مستوى آخر، أعني به أنّ الدولة المغربية لا تواجه “الاستقلال في علاقة بالجمهورية” فقط، كذلك فإن جبهة البوليساريو لا تواجه “الاحتلال في علاقته بالتوسّع” فقط، بل إنّ كُلّاً منهما، من خلال النزاع، من دون الحديث عن أسلوبه ومُقوّماته ونتائجه، يَعْمَلُ في سبيل قضية خاصة: المغرب لِمَنْعِ قيام دولة مُتَصَوَّرة على أقاليمه الجنوبية، إلخ، و”البوليساريو” لِمَنْعِ انهيار المشروع التحريري المَبْنِي على عوامل مثل الأرض، والاقتصاد، والجيش، والشرطة، والهوية، والثقافة.
الدولة المغربية لا تواجه “الاستقلال في علاقة بالجمهورية” فقط، كما أن جبهة البوليساريو لا تواجه “الاحتلال في علاقته بالتوسّع” فقط
أعود إلى “السكوت السياسي” لأبين أن النزاع، بالمعنى الخاص الذي أشرحه، نزاع إقليمي وعلى صعيد المنطقة من خلال التداعيات التي له حسب المراحل، وطبيعة العلاقات الثنائية، والتحالفات التي يمكن أن تتبلور تبعاً للاستراتيجيات المرسومة للدفاع عن المصالح الوطنية. ولا يمكن، بناءً على هذا، إلا أن نتكلم عن حدّة هذا النزاع وتواصله في الزمن، وعلى أثره على دول المنطقة من الناحية الجيوسياسية، وخصوصاً في ما يرجع إلى النتائج التي قد تترتب عن “الجغرافيا الترابية” في السياسة وفي العلاقات بين الدول، وعلاقة ذلك كله، من منظور السيادة، بمفهوم الاستقرار في شمال أفريقيا من حيث التوازن والأمن، وبالموقف المغربي التاريخي نفسه الذي التقت فيه مصالح نظامه السياسي مع مصالح مختلف القوى السياسية: التاريخية تلك التي ظهرت في فترة الحماية، أو بعدها في السنوات الأولى للحصول على الاستقلال، والحديثة التي تبلورت في إطار التعدّدية السياسية المسنونة منذ الدستور الأول في 1962، فالإجماع حَاصِل، حتى ولو لم يكن تاماً.
ألا يدعونا هذا، من باب الوعي بالمخاطر المتعلقة باستمرار النزاع حول الصحراء، إلى الاعتراف مبدئيّاً بوجود حل براغماتي منطقي يصون المصالح والوجود لأطراف النزاع ضمن سيادةٍ يمكن أن تتوسّع، أو أن تتقلص، حسب التحوّلات التي تفرضها المتغيرات الظرفية أو الاستراتيجية على المصائر والدول؟
يمكن أنْ نتخيّل أنَّ من النتائج المتوقعة لذلك كله، أو لبعضه، أنه سيعمل على إنهاء الطبيعة العدائية التي تأسّست عليها العلاقة بين الدول المغاربية، وإطفاء “الفانتازية” الإيديولوجية التي أشعلت نارها بأحطّ التعبيرات الوهمية والعنصرية إيذاءً وإيلاماً، والقضاء على التجاهل المتبادل المبني على الخصوصية الوطنية والذاتية الجغرافية الموروثة. على أن ما يحتاجه الحكم الذاتي، في اعتقادي، هو المنظور الديمقراطي الذي يمكن أن يُصاغ على أوّليات شاملة، أصبحت مطالب عمومية في الدول المغاربية، من المفروض أن تقوم على السيادة الشعبية، والمساواة، وحقوق الإنسان والحرّيات العامة، والمؤسسات، والوعي بالمصالح المشتركة في سبيل ترقية شعوب المنطقة، وتلبية مطالبها في التقدم والنماء والتوزيع العادل للخيرات الضامن للعيش الكريم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى