ما رآه غسّان كنفاني في “القميص المسروق”

حسن مدن

كان الأديب الشهيد غسّان كنفاني، في عام 1958، في الثانية والعشرين من عمره، يقيم ويعمل في الكويت. ويومها كتب واحدةً من أوائل قصصه القصيرة، “القميص المسروق”، التي جعل منها عنوان إحدى مجموعاته القصصية. حين نقرأ اليوم هذه القصة التي كتبت قبل 67 عاماً، نخال أنّنا بصدد مشهد يعيشه قطاع غزّة ولا يزال منذ أكثر من عامين. يحملنا هذا على السؤال: هل خطر في ذهن الشاب غسّان كنفاني الذي كتب قصته هذه بعد عشرة أعوام على نكبة 1948، أنّ محنة شعبه ستستمر كلّ هذه العقود، وأنّ التفاصيل المحزنة التي حوتها القصة ستتكرّر خلالها؟
تجري أحداث القصة في ليلةٍ مُمطرة، حول زوجين شابين وابنهما الوحيد، تجمعهم خيمة في أحد مخيّمات اللجوء، ويعانون، كبقيّة لاجئي المخيم، من الجوع والعوز. لم يستطع أبو العبد، الزوج، النوم. ظلّ مُنكبّاً على رفشه يحفر طريقاً تجرّ المياه الموحلة بعيداً عن أوتاد الخيمة. وحين شمّ رائحة الدخان، عرف أنّ زوجته أشعلت النار لتخبز الطحين، كان بودّه أن يدخل الخيمة ويقترب من دفء النار، ولكنّه تحاشى الدخول، لأنّه يعلم أنّ في محاجر زوجته سؤالاً رهيباً يقرع فيهما منذ زمن بعيد: هل وجدتَ عملاً؟ السؤال الذي اعتاده منها، تُوجهه له وعيناها نحو ابنهما عبد الرحمن، المكوّر في زاوية الخيمة، وتأمل الأم شراء قميص جديد له.
شعر أبو العبد لحظتها بأنّ البرد أقلّ قسوةً من سؤال الزوجة، الذي لا يملك عليه جواباً، سوى الجواب الذي اعتاده: “هل تريدني أن أسرق لأحلّ مشاكل عبد الرحمن؟”. لا تقرّ أم العبد بما يقوله الزوج. ستحاججه: “كيف استطاع (أبو فلان) أن يجد عملاً هنا، وكيف استطاع (أبو علتان) أن يجد عملاً هناك؟ يدرك أبو العبد أنّ فرص العمل نادرة في محيط المخيم البائس الذي يعتمد من قادتهم الأقدار القاسية إليه على مساعدات وكالات الإغاثة.
لحظتها، ومن وحي السؤال الذي اعتاد تكراره جواباً على إلحاح الزوجة عليه: “هل تريدني أن أسرق؟”، خطر في باله خاطر: “وماذا لو سرقت؟”. وانسابت الفكرة في ذهنه: مخازن وكالة الغوث، حيث تتكدّس أكياس الطحين والرز، تقع على مقربةٍ من الخيام. ومحاولاً تزيين الأمر في ذهنه فكّر: “هذا المال ليس حلال أحد، لقد أتى من هناك، من أناسٍ قال عنهم معلّم المدرسة لابنه عبد الرحمن: إنّهم يقتلون القتيل ويمشون في جنازته، فماذا يضرّ الناس لو سرق كيساً، كيسين، عشرة، وماذا لو باع شيئاً من هذا الطحين إلى واحد من أولئك الذين يتمتعون بقدرةٍ عظيمة على استنشاق روائح مسروقات، وبقدرةٍ أعظم على المساومة عليها؟”.
في غمرة تداعي الأفكار في ذهنه يفاجئه شخص آخر في المخيم، يُدعَى أبا سمير، يعمل في وكالة إغاثة، ويستغل عمله وسلطة توزيع المساعدات لسرقة الطحين الموجّه إلى اللاجئين. بدا كأنّه قرأ ما يدور في ذهن أبي العبد، فحاول استدراجه للانضمام إليه في سرقة المساعدات مقابل مبلغ يُمكّنه من شراء قميصٍ لابنه، أي تحقيق رغبةٍ بسيطةٍ لعائلةٍ فقيرة، وبتوالي السرد سنكتشف أن أبا سمير ما هو إلا أجير لدى موظف أميركي أشقر مسؤول في الوكالة، يبيع المؤونات له، مقابل منافع متبادلة.
تخيّل أبو العبد الأميركي الأشقر وهو يفرك راحتيه النظيفتين أمام أكوام الطحين التي سيبيعها ويضحك بعينين زرقاوين ضيقتين، ولم يدر أبو العبد، كما قال كنفاني في القصة، “كيف رفع الرفش إلى ما فوق رأسه وكيف هوى به على رأس أبي سمير”، الأجير الفاسد. “كلّ ما يدريه هو أنّه عندما وجد نفسه في خيمته مبلولاً يتقطر ماءً ووحلاً، ضمّ إلى صدره ولده عبد الرحمن، وهو يحدّق في وجهه الهزيل الأصفر. كان لا يزال راغباً في أن يراه يبتسم بقميصٍ جديد.. فأخذ يبكي”.
في هذه القصة للعشريني غسّان كنفاني لسنا فقط إزاء نباهة كاتبها المبدع المناضل، ولسنا فقط إزاء مشهدٍ فلسطيني قاسٍ، ما زال يتكرّر، يحضر فيه دائماً أميركي بعينين زرقاوين ضيقتين، ولسنا فقط إزاء تجربة معاناة داخلية موجعة تكشف تمزّقات الضمير الإنساني. … القصة هذا كلّه مجتمعاً وأكثر.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى