في جذور الأزمة السودانية

عمر العمر

رغم تخطّي الحركة السياسية السودانية عتبة الثمانين، إلا أنها لا تزال تعاني أعراض طوْر التسنين، بل هي مسكونة بفيروسات الطفولة وأمراضها، مع أنها تتخذ السياسة لعبتها الأثيرة، لكنها لم تتقنها فنّاً تحذق مهاراته أو تمارسها، علماً ذا أصول وقواعد، فطوال العقود الثمانية ظلت الحركة الوطنية ولعبتها الأثيرة تراوحان داخل دائرة مفرغة من الإنجازات الجوهرية. حين تكسر الحركة هذه الدائرة تنزلق إلى درك أشدّ ظلمةً وظلماً، كأنّها لم تقرأ قول حكيم العرب الجاهلي زهير بن أبي سلمى “من يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأم”. النخب الجائلة على خشبة القيادة تراوغ نفسها والشعب حد الاحتراف، فهي إذ تنشغل بالسياسة فتتحدّث كثيرأ عن “مخاطبة جذور الأزمة السياسية” تغفل، أو تتجاهل، عمداً حد الإدمان أنها هي جذر الأزمة، فكل المنشغلين بالسياسة من بوابة التكسّب أو على جسر الهواية ينكبّون على اللعبة من دون محاولة صقل مهاراتهم أو الاشتغال علي تطويرها وتطوير أنفسهم. ولذلك تظل اللعبة نفسها هي هي.
…. من يتأمل المشهد السوداني الراهن يرى، من دون عناء، أطياف الحزازات والضغائن المصاحبة لبدايات الحركة الوطنية. من يتتبع مسارها يكتشف، من دون جهد، تمكُّن أمراض طور التكوين منها. تعاقبُ الأجيال ربما يُبدّل شكل جسد الحركة، فيزيده ترهّلاً. لكنه لايزال موبوءاً بفيروسات علل الطفولة غير المعافاة. أخطرها وباء التشظّي. جسمٌ لا يزال مسكوناً بجينات التنازع وخلاياه. دماغٌ يغلب الجهل فيه على الفكر، فيطفو الارتجال فوق التخطيط، كما يطغى الانفعال على العقل، فيحل الافتعال داخل الحدث مكان التفكير. لا تزال شريحة القيادات العليا تنكفئ على ذاتها، وأُطرها التقليدية المهترئة. تلك أبرز معاضل جذور الأزمة السودانية. تتنافس النخب السياسية بأدوات تلقائية وتقليدية أو مصطنعة على مراكمة البلايا عوضاً عن محاولة تفكيكها. ذلك التشرذم يجرفها إلى السقوط في لهب الاحتراب مراراً من دون التبصر في قول الحكيم الجاهلي “وما الحرب إلا ما عرفتم وذقتم”.
أفضت هيمنة الجنرالات إلى عسكرة الحركة السياسية، بل كل جبهات الحياة السودانية، بما في ذلك الاقتصادية
… بدا المشهد السياسي السوداني، في بدايات تشكيله، مصطرعاً على شعاري “وحدة وادي النيل” و”السودان للسودانيين”. تلك معارك التكوين السياسي الفكري تجاه القضايا الوطنية، في ضوء مشاعل خرّيجي كلية غوردون ولهب بيانات جمعية اللواء الأبيض. ظلّ ذلك الاستقطاب كما بدأ مشتبكًا ومتقاطعاً مع الخارج. تقاطعات ظلت تتعمّق حفرياتها وتتعدّد قنواتها مع تنامٍ مع مواعين الحركة الوطنية، خصوصاً إبّان العقد الممتد من منتصف خمسينيات القرن الفائت إلى منتصف ستينياته. وتمثّل دائرة المسلمية في انتخابات 1953 أحد تجليات تشابك الخارج المبكّر مع الداخل. خسارة عبد الرحمن علي طه (هو من هو) في معقل عشيرته أمام حماد توفيق وسودانيته حسمها جدلٌ قانوني معززٌ بتدخل مصري سافر. الصاغ صلاح سالم أيقونة الفساد المصري في تلك الانتخابات السودانية.
… شكّل نشاط الطلاب السياسي رافداً حيويّاً للحركة الوطنية منذ الأربعينيات. هو رافد لا يزال يغري الأحزاب بالاستثمار فيه، كل حزبٍ حسب رأسماله السياسي. لا تزال فصول هذا السيناريو تتوالى. الجسم الطلابي مرآة الحركة السياسية بكل عوارها. لا يزال نداء إبراهيم أحمد في مؤتمر الخرّيجين، 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1944، كأنما كتبه اليوم (نحتاج اليوم إلى جبهة متّحدة لا إلى أحزاب متعدّدة. كفانا ما قضينا من زمن نمجدُ التشيعَ والقبلية ونصطلي بنار التفرق)، فذلك النداء كان محاولة لكسر طوق الاستقطاب بين تجمع أبكار الساسة المنظِمين وتجمع البورجوازية الوطنية ممثلة في (تجمّع العباسية) بمبادرة من عبد الرحمن المهدي، قوامه أقطاب طائفتي الأنصار والختمية، كبار الإدارة الأهلية والتجار والأعيان وكبار الخرّيجين، كذلك وصّف فيصل عبد الرحمن علي طه في سِفره “الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني 1936 – 1953)، ذلك سفرٌ يتعقب فسيفساء الحركة الوطنية بجهد صبور في البحث والتوثيق.
مع تدنّي منسوب الوعي داخل الحركة الوطنية، بدت جدلية الجيش والسياسة أكثر القضايا تعقيداً وتأثيراً
… بمقالاته المعنونة “المسألة السودانية”، يبتدر حسين شريف ريادةَ الصحافة في بناء الحركة السياسية السودانية، وهي ريادةٌ تعزّزت في مرحلة بناء الهياكل الحزبية في الأربعينيات. وقد شكّل الجهد الصحافي سبقاً في استنفار جماهير ثورة أكتوبر (1964)، وهو دور ساهمت به إبّان ما جرى تعريفه بتوسيع الهامش الديمقراطي في أحد منعطفات النضال الجماهيري ضد نظام عمر البشير. لكن هذه الريادة تهشّمت بأقلام صحافيين ساهموا في تقويض التجربة الديمقراطية قبيل هذا النظام، وفي ظله ثم بعده. محزنٌ التدحرج من مراقي البدايات الملهِمة إلى درك التنابز الراهن. تباين الرؤى حقٌ مشروع، لكن غثاثة تبادل الشتائم يجرّد الصحافة من نور الوعي ووهج التنوير. الصحافة تتحمل وزراً في هبوط مستوى الجدل السياسي. مخجلٌ تسويق مصطلحات الإسفاف الأدبي ولغة التحقير والتكريه في المنعطف الراهن.
… ربما هذا فصل محزنٌ من رواية الحركة الوطنية في ضوء مساهمات أقلام “الحضارة” و”الفجر” السبّاقة. لكن أنكأ للحزن حال قيادات الطبقة السياسية، فهي نشأت على بُنى الثقافة والتنوير بطموحات أبكار الخريجين في جمعيات القراءة والنقاش الثقافي، لكن هذه اليقظة الفكرية لم تحصّن أبكار الحركة الوطنية ضد أمراض النشوء، كما لم تبرأ منها. بل تستفحل لا تزال. إعداد الممثلين لأدوار القيادة على خشبة المسرح السياسي أقرب إلى مهرّجين فاقدي الحد الأدنى من شروط تلك الأدوار ومؤهلاتها. ليس عليهم من قبس الإلهام بصيص. هم لا يكتفون بالظهور الفج، بل يتشبثون بالأدوار الرئيسية. ها هي كل الجوقة السياسية تكابد خواء فكريّاً أسيرة رؤى قاصرة، ينهشها جدلٌ عقيم لا يستهدف المصالح العليا للدولة.
من يتأمل المشهد السوداني الراهن يرى، من دون عناء، أطياف الحزازات والضغائن المصاحبة لبدايات الحركة الوطنية
… مع تدنّي منسوب الوعي داخل الحركة الوطنية، بدت جدلية الجيش والسياسة أكثر القضايا تعقيداً وتأثيراً، فهي شاهدٌ حيٌ على تكريس كل أمراض التشظّي السياسي والقعود الوطني وأعراضهما، فمن المفارقة وقوع أول انقلاب عسكري ضحى الاستقلال. أطلق الجيش النار على الجهد الفكري المبادر لجهة بناء أول دولة وطنية ديمقراطية على صعيد أفريقيا بأسرها. بفعل تتابع الانقلابات والانقلابات المضادّة، تحوّل الجيش إلى شمس سياسية تدور حولها كل كواكب الأحزاب والمنظّمات المدنية، فغرق الوطن في العتمات. من المفارقة روايةٌ تزعم تسليم رئيس الوزراء، عبدالله خليل، السلطة إلى قائد الجيش في 1958، أمانةً يردها لاحقاً. بغض النظر عن مصداقية الرواية، الثابت تسليمُ حسن الترابي السلطة إلى عمر البشير بعد أكثر من ربع القرن على نحو مشابه. في الحالتين، ثبُت قصور رؤى الساسة وعدم التزام الجنرالات بشرف الجندية أمام إغراءات السلطة. فكما قال فيصل طه في كُتيبه “في ظروف وأحداث انقلاب 17 نوفمبر 1958) إن عثرات الديمقراطية لا تبرّر إنتاج كل هذا الكم من الانقلابات والمحاولات الفاشلة، بل “يبدو أن هناك أسبابا أعمق وأخطر تتعلق بالولاء والعقيدة العسكرية والمهنية والانضباط”.
… أفضت هيمنة الجنرالات إلى عسكرة الحركة السياسية، بل كل جبهات الحياة السودانية، بما في ذلك الاقتصادية. حقق البشير رقماً قياسيّاً في البقاء على قمتي المؤسّسة العسكرية والدولة. لا الأنظمة العسكرية طويلة البقاء، ولا الحكومات المدنية قصيرة الأجل، ساهمت في تشجيع النُخب على تفكيك جدلية الجيش والسياسة، فالنظرة السائدة لا تزال تقارب الجيش كتلة صمّاء مبرّأة من الصراع السياسي داخل المجتمع، كأنما صفوفه لا تنحدر من طبقات اجتماعية متباينة، بينما فيها مثقفون لديهم ميول سياسية. كما قال الضابط الشيوعي، محمد محجوب عثمان، في كُتيّبه “الجيش والسياسة في السودان”، لكن عندما وقع انقلاب يساري، تم وصف الجيش كله كأنه كتلة يسارية، كذلك عند استيلاء الإسلاميين على السلطة. لم تتبدّل هذه النظرة، رغم إعدام البشير عشرات الضباط ( 28 منهم في وجبة واحدة) وإحالة مئات إلى المعاش.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى