ما يمكن البناء عليه في تجربة تظاهرات الساحل

إياد الجعفري

أهم ما يمكن البناء عليه في الملابسات والحيثيات التي أحاطت بتظاهرات المحتجين في مدن الساحل السوري، قبل يومين، هو كيفية تعاطي السلطات مع هذه التجربة الاحتجاجية السلمية، التي قد تكون الأولى من نوعها، من حيث الحجم والنوع.
فتعاطي جهاز الأمن العام، بصورة خاصة، كان موفقاً إلى درجة كبيرة. كذلك كان تعاطي وزارة الداخلية مع تداعيات جريمة زيدل. ويوحي ذلك بوجود قرار من رأس هرم السلطة بدمشق، بعدم تكرار الأخطاء الكارثية التي تم الوقوع فيها، في أحداث الساحل بآذار، أو في أحداث جرمانا وصحنايا في نهاية نيسان، ولاحقاً في السويداء، بمنتصف تموز الفائت. وهو أمر يجب التركيز عليه، لا لجهة مديح السلطة، بل لجهة التأكيد على مسار إيجابي بدأت تسير باتجاهه، وتشجيعها على الذهاب أبعد فيه.
أداء الأمن العام والداخلية بشكل عام، وسلمية المحتجين، يجب التوكيد عليهما، ليكونا حجر أساس يمكن بالبناء عليهما، تطوير خبرة مجتمعية من جهة، وأخرى أمنية من جهة أخرى.
كذلك، يجب البناء على السلمية التي اعتمدها المحتجون إلى درجة كبيرة، رغم بعض التجاوزات المحدودة التي لم تنتقص من المشهد السلمي العام. وذلك في الضفة المقابلة لبعض الأخطاء المحدودة التي يمكن تفهمها في أداء الأمن العام خلال تأمين تلك الاحتجاجات، والناجم عن انعدام الخبرة التراكمية في هذا المجال.
هاتان النقطتان: أداء الأمن العام والداخلية بشكل عام، وسلمية المحتجين، يجب التوكيد عليهما، ليكونا حجر أساس يمكن بالبناء عليهما، تطوير خبرة مجتمعية من جهة، وأخرى أمنية من جهة أخرى، لتفكيك احتمالات العنف والعنف المضاد، وصولاً إلى مرحلة متقدمة من حل المشكلات السياسية الداخلية، باستخدام أدوات الاحتجاج والضغط السياسي السلمي. في المقابل، يجب أن تتحمّل السلطة بوصفها تدير “الدولة”، لمسؤولياتها في تقبّل تعرّضها لهذا الضغط، من حين لآخر، بوصفه شكلاً من أشكال الممارسة السياسية، التي ثار السوريون في عام 2011، جراء كبتها وتشويه مساراتها.
وفيما تذهب معظم التعليقات من جانب ناشطين ومراقبين حيال احتجاجات الساحل وما قبلها، وما يمكن أن يتلوها، باتجاه التركيز على التفاصيل السلبية في هذه التجربة، نعتقد من جانبنا، أنه يجب التركيز على الإيجابي منها، والعمل على الترويج له، وتكثيف الأضواء عليه. ففي أداء الأمن بصورة خاصة، والداخلية بشكل عام، بعيد انفلات “الفزعة” العشائرية في حمص، تبدت “الدولة”، بدرجة متقدمة من الحيادية، مقارنة بالتجارب الثلاث السابقة (الساحل، جرمانا، السويداء). وكان جلياً أن السلطات المعنية حريصة على تفكيك البعد الثأري والطائفي لملابسات الحدث، وتطويق احتمالات انهيار السلم الأهلي، بأقصى سرعة ممكنة. وهنا، يمكن كتابة الكثير عن مسؤولية السلطة أساساً في الوصول إلى هذا المشهد، قبل العمل على “إطفاء حرائقه”. وهذا صحيح جزئياً،
وخاطئ جزئياً أيضاً. أما وجه الصحة فيه، فيتعلّق بالممارسات السابقة للسلطة التي كان فيها درجة ملحوظة من الارتكاز على استثارة “الحس المذهبي” للأكثرية. إلى جانب مسارها الذي ذهبت فيه، لتأسيس الحكم بصورة احتكارية. أما وجه الخطأ، فهو عدم ملاحظة تغيّر أداء السلطة بعد أحداث السويداء تحديداً. وهو تغيّر كان تدريجياً، لكنه ملحوظ. وإن لم يرتقِ إلى درجة تغيير مسار تأسيس الحكم، إلا أنه كشف أن السلطة تعلّمت ألا تقع مجدداً في فخ مواجهة الأزمات مع المختلفين معها من السوريين، بأدوات عنفية. وهو أمر يجب الرهان عليه، والبناء عليه مستقبلاً، نحو المزيد من التشييد، باتجاه مشاركة سياسية أكبر. وقبل ذلك، يجب أن تكون احتجاجات الساحل رسالة للسلطة يجب أن تقف عندها ملياً للتدبّر في المشكلات التي تعاني منها هذه الفئة من السوريين، والعمل على حلحلتها. وأهم تلك المشكلات، الجرائم شبه اليومية التي تستهدف أفراداً من أبناء الطائفة العلوية. ونحن ندرك أن بناء منظومة أمنية جديدة قادرة على ضبط المشهد الأمني بصورة كلية، أمر يتطلب المزيد من الوقت. وكما هو معلوم، ففي البلدان الخارجة من نزاعات أهلية، يتطلب إعادة بناء المنظومة الأمنية، عدة سنوات. ومن هذا المنطلق، نجد نجاح الأمن العام، إلى حد كبير، في تأمين احتجاجات الساحل، تقدماً يجب الترحيب به. لكن الطريق ما يزال طويلاً للوصول إلى المرحلة التي يصبح فيها الأمن مضبوطاً، بالصورة المأمولة. وهذه المهمة الأسمى للسلطة اليوم، لأنها ركيزة استقرار السلم الأهلي الهش، وأساس إعادة الإعمار، باعتبار الأمن شرطاً لجذب الاستثمار الخارجي، بصورة نوعية.
يجب أن نقرّ كسوريين، أننا غير موحدين حول سردية واحدة لما حدث في سوريا، قبل 8 كانون الأول 2024. كما أننا غير موحدين حول تصوّر لسوريا المستقبل، بعد هذا التاريخ.
على المقلب الآخر، يجب الإشادة بسلمية المحتجين، بوصفها تعبيراً عن تعلّم الحاضنة السابقة للنظام البائد، عدم جدوى العنف المسلح، كوسيلة لتغيير الأوضاع أو تحسينها. وهنا أيضاً يمكن كتابة الكثير عن الهتافات الطائفية التي رافقت الاحتجاجات، أو المطالب ذات الطابع الانفصالي أو التقسيمي. لكن، يجب أن نقرّ كسوريين، أننا غير موحدين حول سردية واحدة لما حدث في سوريا، قبل 8 كانون الأول 2024. كما أننا غير موحدين حول تصوّر لسوريا المستقبل، بعد هذا التاريخ. كما أننا بجميع مكوناتنا، انتكسنا إلى درجة غير مسبوقة من انتماءاتنا ما دون الوطنية. هذا الإقرار ضروري، لتفهّم كل سوريّ للسوري الآخر المختلف عنه. ومحاولة خلق حوار وطني – مجتمعي، قبل السياسي. وهنا، ما دامت السلمية تحكم الاحتجاج والتظاهر، فيجب تقبّله، وحمايته، بوصفه حقاً، لا رفاهية. لا من منطلق حقوقي – سياسي، بل من منطلق نفسي – سياسي. فأي فئة من السوريين، تُحرم من حق التعبير عن أوجاعها وتطلعاتها، فستُدفع نحو المزيد من الاحتقان، الذي هو الأساس لانفجار العنف. والعكس صحيح. فالقدرة على التعبير، أياً كانت سقوفه، مرفقاً بالسلمية، يخفف الاحتقان. وإن تم التعامل معه بحكمة وبصيرة، فإنه قد يكون الأساس لحوار وطني – مجتمعي، كما أسلفنا. قبل الحوار الوطني – السياسي، الذي يجب الوصول إليه بالضرورة.
المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى